الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ثلاثون عمر أبو ريشة

ثلاثون عمر أبو ريشة

21.07.2020
صبحي حديدي



القدس العربي
الاثنين 20/7/2020
مرّت يوم 15 تموز (يوليو) الذكرى الثلاثون لرحيل الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة (1908 – 1990)؛ الذي أرجّح، ابتداءً، ولادته في هذا العام، وليس 1910 كما تقول روايات أخرى؛ وفي مدينة عكا، حيث دار جدّه لأمّه إبراهيم اليشرطي، وليس في بلدة منبج السورية كما يقول قيد نفوسه الرسمي. سبب هذا الاختلاف أنّ الوالد شافع مصطفى أبو ريشة كان دائم التنقل، وعمل قائمقاماً في الخليل وحوران وطرابلس ومنبج، ولم يسجل ولادة ابنه عمر إلا في منبج بعد سنتين.
تَعارُض الروايات حول سنة الولادة ومكانها لم يقابله تعدّد كافٍ في الأعمال النقدية التي تناولت تجربة الشاعر، وباستثناء عدد قليل من الأطروحات الجامعية، والفصول المتفرقة في مجاميع نقدية عامة (بعضها بالغ الأهمية، مع ذلك، عند أمثال شوقي ضيف، مارون عبود، محمد مندور، أحمد الجندي، محمد مصطفى بدوي، عمر الدقاق…)؛ يمكن التنويه بالمؤلفات التالية، بين أخرى سواها بالطبع: إيليا حاوي، في "عمر أبو ريشة شاعر الجمال والقتال"، 1980؛ محمد إسماعيل دندي، في "عمر أبو ريشة دراسة في شعره ومسرحياته"، 1988؛ جميل علوش، في "عمر أبو ريشة حياته وشعره"، 1994؛ وفايز الداية، في "دلالات السيرة والأسلوب عند عمر أبو ريشة"، 2018، ولعله الأفضل إحاطة بتجربة الشاعر، والأعلى دقة في تصويب مسارات حياته اتكاءً على معلومات مباشرة من بعض أفراد أسرته.
 
الشاعر سُجن بسبب مواقفه ضدّ الانتداب الفرنسي، واختلف مع الكثير من أبرز ساسة بلده في المواقف والخيارات، ولكنه بقي صوت سوريا الشعري والإنساني الأعلى والأبهى في عصره، وصاحب قصيدة الجلاء الخالدة
 
أقدار أبو ريشة، ضمن إطار الدراسة والعمل لاحقاً، قادته من منبج إلى حلب ثمّ بيروت، قبل أن يوفده والده إلى مانشستر للتخصص في الأصبغة وكيميائيات النسيج، وثمة رواية تقول إنه سعى إلى إبعاده عن الشعر والسياسة في آن معاً؛ ثمّ يحطّ به الترحال في مدن وبلدات سورية وعربية مثل معرّة النعمان وحمص وحماة ودمشق وبغداد والقاهرة وعمّان، ويمثّل بلده في سفارات البرازيل والولايات المتحدة والهند؛ قبل أن يغمض عينيه للمرّة الأخيرة بعيداً عن عكا ومنبج وحلب، في الرياض السعودية. هذه مسارات أوديسية الطابع، كما قد يجوز القول، لم تفتح باصرة أبو ريشة وبصيرته على عوالم أخرى وثقافات مختلفة وتجارب إنسانية شتى، فحسب؛ بل لعلّ أفضل ثمارها، عندنا نحن القرّاء على الأقلّ، كانت اكتناز مشروع الشعري بقراءات ثرّة ومتشابكة وتجريبية الطابع، وحداثية على نحو خاصّ مفاجئ كذلك.
لافت أنه يكتب ما يلي، في سنة 1936، وفي مجلة "الحديث" الحلبية وليس في أية دورية أجنبية: "سئمتُ هذا الشعر وهذه الزمرة من الشعراء [ويقصد أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم] فعدت أبحث في كتب الأدب، فعثرت على شعر جيد مبعثر هنا وهناك كأبيات لأبي صخر الهذلي: وما هي إلا أن أراكِ فُجاءةً/ فأبهتَ لا عرفٌ لديّ ولا نكرُ". أو يتابع: "أحبّ الشعراء إليّ اثنان هما بو وبودلير اللذان صرفت الساعات الطوال في مطالعة آثارهما، فهما أشبه بلولب صور في حانوت رسام كيفما حرّكته وجدت صوراً جديدة تختلف كل صورة عن أختها كلّ اختلاف وفي كلّ منها رمز ينقلك إلى أفق".
ولعلها لم تكن صدفة محضة أنّ صداقاته الحلبية، الشعرية على وجه الخصوص، ضمّت أمثال الشاعر الطبيب علي الناصر، أحد أئمة السوريالية المبكرة في سوريا، والذي سيصدر ديوان "سريال" مع اورخان ميسر سنة 1947، فيطلق أبو ريشة على الأخير تسمية "بودلير سوريا". كذلك كانت سنوات دراسته في بيروت، ابتداءً من 1924، قد أتاحت له أن يزامل أمثال وجيه البارودي وإبراهيم طوقان؛ الأمر الذي لعله كان وراء تحريضه على كتابة مسرحية ناقدة، في سنة 1934، بعنوان "محكمة الشعراء"، تجري على ألسنة أبولون، منيرفا، فينوس، باخوس، هيلوس، ديميتر، بلوتو، هرقل؛ والشعراء معروف الرصافي، بشارة الخوري، حليم دموس، شفيق جبري، أحمد زكي أبو شادي، إبراهيم ناجي، أحمد الصافي النجفي، جميل صدقي الزهاوي، علي الناصر، شبلي الملاط، علي محمود طه، وعباس محمود العقاد.
وليس أقلّ إثارة للانتباه ما قاله عن الشعر في محاضرة استضافها النادي العربي في دمشق، سنة 1947: "ما هو مثلي الأعلى في الشعر؟ أأريد من الشعر أن أشمّ فيه، وأسمع فيه، وأتذوق أنفاس الحياة وروائحها ونكهاتها؟ أم أريد أن يغيّبني فيها حتى لا أعود أشعر بكياني الذاتي؟ لا أدري ماذا أريد!". ويتابع: "إذا تركتُ جانباً الموازين المنطقية التي تزن قيم الشعر، والتي أراها لا تشفي غلّة ولا تبلغ غاية، لأنّ الإحساس بالجمال كما أرى مصدره العاطفة والذوق، لا العقل والعلم. أقول إذا تركت تلك الموازين جانباً، والتفتُّ إلى الشعر الذي أكتبه وجدتني شاعر قصيدة لا شاعر بيت، والقصيدة عندي فكرة معينة منطوية تحت أجنحتها الثلاثة: الخيال واللون والنغم".
وتلك آراء كانت تقطع مع زمنها جمالياً، ولكن من دون أن تقاطع سياقاته ومناخاته ومعطياته السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية؛ فالشاعر سُجن بسبب مواقفه ضدّ الانتداب الفرنسي، واختلف مع الكثير من أبرز ساسة بلده في المواقف والخيارات، ولكنه بقي صوت سوريا الشعري والإنساني الأعلى والأبهى في عصره، وصاحب قصيدة الجلاء الخالدة:
يا عروس المجد تيــهي واسحبي/ في مغانينا ذيول الشهب
كمْ لنا من ميسلون نفضت/ عن جناحيها غبار التعب