الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تناقضات العقوبات السورية... رفاهية النخبة الحاكمة والفقراء يدفعون الثمن 

تناقضات العقوبات السورية... رفاهية النخبة الحاكمة والفقراء يدفعون الثمن 

31.03.2021
عمار الحلبي


 
العربي الجديد 
الثلاثاء 30/3/2021 
بينما تشهد دمشق طوابير خبز تمتد على مرمى البصر، تظهر صفوف أخرى في المدينة المحاصرة بالدمار لشراء أحدث الهواتف، في مشهد ينطلق منه التحقيق لكشف آثار العقوبات والفوارق الطبقية الهائلة بين السوريين والنخبة الحاكمة. 
- يصطف سوريون في طوابير طويلة ممتدة لعدّة ساعات من أجل الحصول على بضعة أرغفة من الخبز في دمشق، بينما وقف آخرون في صفوف ممتدة أمام شركة "إيماتيل" بذات المدينة في أكتوبر/تشرين الأول 2020، للحصول على آخر نسخة من هواتف آبل الجديدة (آيفون 12)، والتي دخلت إلى سورية، رغم أن مالك شركة إيماتيل رجل الأعمال المقرّب من النظام السوري خضر علي طاهر، عُوقب من قبل وزارة الخزانة الأميركية في 30 سبتمبر/أيلول، أي قبل أقل من شهرٍ واحد من طرح شركته للهواتف الأميركية، بموجب قرار الخزانة رقم 13894، والذي ينص على "منع السفر وتجميد الأرصدة المالية للشركة ومالكها، وفرض عقوبات مالية على أي شخصية أو كيان يتعامل معهم، إذ يعمل طاهر كوسيط محلي وتجاري لصالح الفرقة الرابعة، بالجيش السوري التي يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري"، بحسب القرار والذي أوضح أن طاهر أنشأ عام 2017 شركة القلعة للحماية والحراسة والخدمات الأمنية LLC، بهدف توفير الحماية لقوافل مكتب الأمن ونقاط التفتيش التابعة للفرقة الرابعة، كما كُلّف بتحصيل الرسوم من الحواجز ونقاط التفتيش الداخلية بين مناطق النظام والمعارضة، والمعابر الخارجية مع لبنان". 
كما أسّس عدّة شركات أخرى، من المرجّح أنّها تستخدم لحجب الأموال غير المشروعة التي جُمعت بالنهب على المعابر، إضافةً لدعمه الحكومة السورية مادياً وتكنولوجياً. واعتبرت الخزانة الأميركية أن شركة إيماتيل تأسّست بناءً على رغبة أسماء الأسد لإيجاد بدائل عن إمبراطورية رجل الأعمال السوري رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد، والذي يملك مشغّل الهاتف الخليوي السوري "سيريتل". 
تراوح سعر آيفون 12 وقت طرحه في شركة إيماتيل بين 3.9 ملايين ليرة و5.3 ملايين ليرة سورية (أي ما يعادل 1900 دولار و2300 دولار أميركي) وهو مبلغ يعادل تقريبًا متوسّط دخل الموظّف السوري لمدّة ما بين عامين وثلاثة أعوام، بحسب مؤشّر الرواتب العالمي Salary Explore والذي حدّد متوسّط دخل السوري في عام 2020 بـ 150 ألف ليرة، بينما أصبح في العام الجاري، 149 ألف ليرة سورية (نحو 60 دولارا وفق متوسط سعر الصرف في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي و37 دولارا بسعر مارس/ آذار 2021)، ويفوق سعر البيع في سورية السعر العالمي لهاتف آيفون 12 والذي يبلغ 799 دولارا، وآيفون 12 برو 999 دولارا، وآيفون 12 برو ماكس 1199 دولارا حسبما حدّدته شركة آبل على موقعها. 
وبينما أعلنت الشركة عن هاتفها الجديد على موقعها الرسمي بتاريخ 13 أكتوبر الفائت، موضحةً أنّه سيتوفّر في الأسواق في 30 من ذات الشهر، لكن شركة إيماتيل طرحته في دمشق بـ 25 أكتوبر، أي قبل طرحه عالميًا بخمسة أيام، مؤكدة أنّه "يطرح في سورية كأول دولة عربية"، وأن "جميع الأجهزة مستوردة أصولاً بالنسخ الأصلية بكفالة إيماتيل المميزة"، وبعد عدّة ساعات فقط أعلنت الشركة نفاد الكمية قائلةً: "ننفرد من جديد بتوفير دفعة جديدة من الهاتف نفسه وبنسخة الخطين وسيتم بدء البيع ابتداءً من يوم 27 أكتوبر في جميع الصالات"، وهو ما يعتبره الباحث الاقتصادي يونس الكريم، دليلا على أن العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري وداعميه من قبل الاتحاد الأوروبي، ووزارة الخزانة الأميركية، أثّرت في كل شيء إلّا على الأسد وداعميه، القادرين على كسر هذه العقوبات عبر إدخال كل المعدات والأدوات والسلع التي يحتاجونها وقتما شاؤوا. 
ويبدو الأثر السلبي الواضح للعقوبات على غالبية السوريين، في زيادة عدم قدرتهم على تحصيل قوت يومهم وارتفاع الأسعار بشكلٍ جنوني بسبب زيادة الطلب على السلع الأساسية فيما انخفضت قيمة الليرة السورية لتعادل وفق السعر الحالي 3900 ليرة مقابل الدولار الواحد، بعد أن كانت 1500 ليرة قبل إقرار "قانون قيصر لحماية الحياة المدنية" بحسب موقع "الليرة اليوم" المتخصّص بمراقبة حركة الليرة السورية. 
اللافت أن تدهور سعر الليرة يتزامن مع إحجام النظام السوري عن الاستيراد بحسب ما ذكر رئيس الوزراء حسين عرنوس في 20 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، خلال جلسة مجلس الوزراء لإقرار موازنة 2021، مشيرًا إلى ضرورة ضبط الإنفاق وتوجيه اعتمادات الدعم الاجتماعي لمستحقيها بالشكل الأمثل، وهو ما يتناقض مع ما رصده معدّ التحقيق ووثقه عبر صور تكشف أن العقوبات لا تشمل النخبة الثريّة المقرّبة من الأسد، إذ يتم كسرها وبالتالي تُفرّغ هذه العقوبات من مضمونها بينما يصل أثرها للفقراء وعامة الشعب السوري بشكل أكثر من غيرهم، في وقتٍ يعيش الأسد والمقرّبون منه حالة الرفاهية التي لم تنجح العقوبات في القضاء عليها كما يكشف التحقيق. 
في عزاء وزير الخارجية وليد المعلم في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ظهر نائبه فيصل المقداد والذي أصبح الوزير الحالي، وبجانبه عدد من المسؤولين السوريين يرتدون منتج تنقية الهواء air doctor وهو عبارة عن بطاقة تقوم بسحب الفيروسات والبكتيريا والجراثيم وفق ادعاء موقعها الإلكتروني، ويبلغ سعرها على موقع أمازون 20 دولارا أميركيا، وهو ما كان يعادل حينها نحو 50 ألف ليرة، أي ثلث متوسّط دخل السوري حسب مؤشّر Salary Explorer. 
وفي مطلع أكتوبر الماضي، كان مقرّبون من الأسد يقيمون حفلةً في إحدى الفيلات الفاخرة بمنطقة القرداحة مسقط رأس بشار الأسد، بحضور الفنان الشعبي بهاء اليوسف وهم يطلقون عيارات نارية ويتوسّطون موائد فاخرة، في مشهدٍ لا يشبه حياة الغالبية الساحقة من السوريين، مقابل ذلك، لا يوجد ما ينقذ أبو رائد وأسرته من الفقر المحيط بهم في كل مكان بدمشق، إلّا مبلغ 100 يورو يرسلها ابنه اللاجئ في ألمانيا والذي يقتطع جزءًا من مساعدات الدولة لإعانة أسرته في سورية. 
ويقول أبو رائد لـ "العربي الجديد": "أعمل في مصنع للحلويات، وأحصل على 80 ألف ليرة شهريا، في حين أن إيجار منزلي 110 آلاف ليرة، لذلك فإن كامل راتبي لا يغطّي إيجار منزلي قبل أن أفكّر في تأمين مستلزماتي ومستلزمات أسرتي اليومية". 
ويضيف الخمسيني، أن الـ 100 يورو تُعادل نحو 450 ألف ليرة سورية وتُعينه على العيش ضمن الحد الأدنى، مكملًا: "في الأيام الأخيرة من كل شهر نعيش على الأرز والبرغل، ولا نتناول اللحوم إلّا مرّة واحدة في الشهر حتى يكفينا المبلغ". وهو ما يعد حالة عامة إذ يكشف نائب منسق الإغاثة في حالات الطوارئ بمجلس الأمن، رامش راجاسينغهام أن انخفاض قيمة الليرة السورية بشكل مطرد تزامن مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية الضرورية والوقود بشكل كبير. وقال راجاسينغهام خلال جلسة إحاطة بشأن الوضع في سورية في 25 نوفمبر الماضي، "الناس في سورية باتوا غير قادرين على إطعام أسرهم بشكل متزايد، مبينًا أن نحو 9.3 ملايين شخص في سورية يعانون حاليًا من انعدام الأمن الغذائي، أي بزيادة 1.4 مليون شخص عن العام الماضي مع توقعات بازدياد هذا العدد". 
رصدت "العربي الجديد" عبر مجموعةً تُسمّى "Cars of Syria" وتضم 46 ألف عضو على فيسبوك وجرى إنشاؤها في 2017 صورةً لسيارة من طراز لامبورغيني كورفيت على طريق اللاذقية - طرطوس، وأخرى من طراز مرسيدس G class الألمانية موديل 2018، وثالثة من طراز جاكوار XJ البريطانية موديل 2017، وسيارة أخرى من طراز رانج روفر بودي كيت SVR 2019، بريطانية الصنع ونشرت ذات المجموعة، أسطولًا من سيارات فيراري ولمبورغيني الإيطاليتين من الموديلات الحديثة، والتي تحظر عقوبات الاتحاد الأوروبي المفروضة على النظام السوري في 9 مايو/أيار 2011 في بندها الخامس تصديرها إلى سورية، وتنص على منع دخول "السلع الكمالية" التي فصلها قانون العقوبات الاقتصادية بالمادة رقم 11 وتشمل عشرات المواد القانونية التي تحمل أرقاما، كل رقم منها يعرّف إحدى السلع الكمالية، وجاء في رقم 16 أنّه "من السلع الكمالية المركبات الفاخرة لنقل الأشخاص على الأرض أو الجو أو البحر، فضلا عن ملحقاتها؛ وفي حالة السيارات الجديدة، إذا كانت أسعار البيع تتجاوز 25 ألف يورو؛ في حالة استخدام المركبات يتم اعتبارها كمالية في حال كان سعرها يزيد عن 15 ألف يورو"، كما أنّها تخالف قرار "وزارة الاقتصاد" السورية، التي علّقت استيراد السيارات الحديثة منذ عام 2013، وهو ما اكّده وزير الاقتصاد السابق في حكومة النظام سامر الخليل قائلًا: "إن الوزارة لم تمنح أي إجازات استيراد للسيارات منذ 2013" حسبما نقلت عنه صحيفة الوطن المحلية في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017. 
ينقسم أصحاب رؤوس الأموال في سورية إلى قسمين، طبقة كانت تملك الأموال، ويمثّلها تيار رامي مخلوف، وبدأ نفوذهم في التراجع مع التضييق عليهم، ويضم القسم الثاني، "أمراء الحرب" وهؤلاء شخصيات لم يكن السوريون يعرفون عنها شيئًا قبل الثورة ويمتلكون رؤوس أموال ضخمة مثل سامر فوز وحسام قاطرجي وخضر علي طاهر وهؤلاء يمثّلون تيار أسماء الأسد الذي تصاعد نفوذه مؤخّرا، بحسب الاقتصادي يونس الكريم، والذي أضاف: "أمراء الحرب الجدد حاليًا يحاولون العمل بكل طاقتهم من أجل تقديم رسائل إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة بأنّ عقوباتهم حبر على ورق وليس لها أي تأثير على الأرض، بل يمكن فهم أن هؤلاء يكشفون مظاهر الترف الفاحش لتوصيل رسالة بأن لديهم علاقات خارجية تساعدهم على كسر العقوبات وتطمين المستثمرين بأنّهم قادرون على العمل في السوق السورية رغم العقوبات، وأنّ لديهم طرقهم الخاصة في كسر العقوبات متى شاؤوا، كما يقول الكريم. 
على الرغم من العقوبات تدخل المنتجات الفاخرة، إمّا عبر شركات وسيطة مثل هواتف إيماتيل التي يمكن شراؤها من أسواق أوروبية ونقلها إلى لبنان ثم سورية، أو بشكلٍ مباشر عن طريق تجّار وشركات لبنانية يلعبون دور واجهة الشراء وإدخالها إلى سورية، بحسب الكريم، والذي يرى أن تأثير قانون قيصر على النظام السوري وحاشيته السياسية والعسكرية والاقتصادية "صفر" لأن هؤلاء قادرون على كسر العقوبات متى شاؤوا، بينما رفعت العقوبات كلفة السلع، وهو ما زاد من أرباح التجّار الكبار، وبالمقابل تضرّر المدنيون. 
ورصدت "العربي الجديد" بعض الاختلافات في أسعار السلع الأساسية في دمشق بين مطلع العام الحالي قبل تطبيق "قانون قيصر" واليوم، إذ بلغ سعر كيلو الأرز 5000 ليرة، بينما كان سعره مطلع هذا العام 850 ليرة، وسعر كيلو السكّر 2800 ليرة، وكان سعره 650 ليرة، وكيلو زيت الزيتون 15 ألفا وكان سعره 3300 ليرة، وكيلو السمن النباتي 11000، والعدس 4200، وليتر الحليب 1100 ليرة وعبوة البن الصغيرة 2000 ليرة، وهو ما يصفه الدكتور كرم شعار، الباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، بالتأثير غير المباشر للعقوبات الاقتصادية، موضحا أن العقوبات تدفع المستثمرين إلى التخلي عن الليرة السورية واستبدالها بعملات أجنبية أكثر استقرارًا بسبب تزايد التضخم وتراجع قيمة العملة، ما يؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف وزيادة أسعار الواردات، بما في ذلك الأدوية والمواد الغذائية المستثناة من العقوبات. 
وأضاف شعار أن إدخال بعض السلع عبر دول أخرى لا يعني إفراغ العقوبات من مضمونها بشكل كامل، قائلا: "لطالما كان التحايل على العقوبات ممكنًا في غالبية دول العالم، لكن بتكلفة كبيرة تزيد من سعر السلع وهو ما يدفع الفقراء ثمنه".