الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تشرذم معسكر الثورات العربية.. محاولة للفهم  (1-3)

تشرذم معسكر الثورات العربية.. محاولة للفهم  (1-3)

11.04.2019
د. أحمد موفق زيدان


العرب القطرية
الاربعاء 10/4/2019
حين سُئل الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، رضي الله عنه، عن سببية توحّد أهل الكفر، مقابل تشرذم أهل الإيمان، فردّ قائلاً: أما قرأت قول الله تبارك وتعالى: "وأُشربوا في قلوبهم العجل" لقد دخل وتشرّب حب العجل في قلوب الكفرة، ولذلك فهم متمسكون بعجلهم وبكفرهم، اليوم نرى ذلك بوضوح بين معسكر الثورات، وهو معسكر الربيع العربي، مقابل توحّد معسكر الثورات المضادة، نرى التفتت والتشرذم والنحل والملل في صفوف الربيع العربي، بينما نجد على الضفة الأخرى تماسكاً وتنسيقاً وتعاوناً يومياً في صفوف الثورات المضادة، لمَا يجري كل هذا؟! وما هي أسبابه ومسبباته؟ وما هي نتائجه؟ وكيف لأهل الربيع العربي وأصحاب الحرية والمتشوقون إلى الانعتاق من عراقيل الاستبداد والعبودية أن يتخلصوا من هذا كله؟ ويجمعوا أمرهم، ليكونوا كما وصفهم ربهم "والذين آمنوا بعضهم أولياء بعض".
لا بد من العودة إلى الوراء، لنبحث في جذور هذه الأزمة التي عانت ولا تزال تعاني منها الأمة، وهي معاناة قديمة قدم تمزيق صروح الأمة ورموزها، فكان تفكيك صروحها العلمية، من المدرسة النظامية في بغداد، إلى تفكيك مدارس وتكيات المرجعيات السنية في بغداد ودمشق والعراق وأفغانستان وغيرها، فغابت الصروح العلمية التي تقتات على الأوقاف، بعيداً عن السلطة الزمنية الوقتية المرتبطة بمصالح آنية لا مصالح بعيدة، ولا متجذرة بجذور الحرية والعدل والإنصاف، فكانت الحرب الرهيبة على الصروح العلمية إن كان بالأزهر، أو في الزيتونة، أو في المدارس الدينية العديدة المنتشرة في الشام وبغداد وغيرهما، وهنا تم استحداث مدارس وجامعات في غالبها تأتمر بأوامر السلطة الزمنية، فكان أن تم وضع المناهج، ومعها مدرسو هذه المناهج بما يتفق ويتسق مع خدمة الاستبداد والسلطة الزمنية هذه، بعيداً عن مصالح العباد والبلاد، ومصلحة السلطة الروحية التي كانت الضحية الأولى لكل هذا.
كانت الرابطة التي تربط بين الشعوب العربية والإسلامية على مدى قرون رابطة الأخوة، والخلافة، وفجأة تم استحداث رابطة أخرى، هذه الرابطة أرادت أن تحل محل الأولى، وهي قضية في غاية الصعوبة السوسيولوجية فضلاً عن الدينية، فلا يمكن للتغييرات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية أن تُبتسر بهذه الطريقة المتعجلة، ولذا انعكس هذا كله على المرجعيات، فكان أن ظهرت مرجعيات لا علاقة لها بجذور الشعوب وتطلعاتها وطموحاتها، فضلاً عن معاناتها اليومية، وتقدمت رموز جديدة لا أرض لها، ولا علاقة لها بالمجتمع وحاضنته، لكن هذه الأخيرة مع مرور الوقت تخدّرت بشعارات جميلة تدغدغ العواطف، وأكثر ما يخدّر الإنسان الأمل والتفاؤل، فعاشت الشعوب كلها على مدى قرن تقريباً على سراب من الآمال الخداعة، إن كان أمل الوحدة العربية والجامعة العربية بديلاً عن الجامعة الإسلامية، أو أمل تحرير فلسطين، فكان هذا التحرير بدايته تحرير البلاد العربية من الإنسان العربي، وقبل هذا الفلسطيني للأسف، فكان أن قتلت الأنظمة صاحبة الشعار ذاته من الفلسطينيين أكثر مما قتله قادة العدو الصهيوني مشتركين منذ مأساة فلسطين، ولا نزال ننخدع بهم، وحين ظهرت ثورات هنا وانقلابات هناك، وأحزاب تتشدق بفلسطين، وغيرها من القضايا الإسلامية، صحونا بعد لأي من الزمن على كذبهم، وهو الكذب الذي كلفنا للأسف مئات الآلاف من الضحايا، فضلاً عن تدمير أوطان، ولا تزال الأكاذيب والأباطيل والتجارة بالشعارات مستمرة، ولا تزال معها القابلية للانخداع موجودة.
إذن استطاع الاستبداد تقديم رموز جديدة، لكن مع ظهور الربيع العربي انكشف السحر، وأدرك أحفاد سيدنا موسى عليه السلام من جيل الربيع العربي أن حيّات الأنظمة الاستبدادية ما هي إلا حيّات سرابية كاذبة لم تقوَ أمام حية أحفاد سيدنا موسى الحقيقية، وهي حيّة الربيع العربي التي ستلقف كل ما يأفكون ويخططون، وفي الحلقة المقبلة سنتحدث عن أساليب الأنظمة العربية وسدنتها من المحتلين في تعزيز التشتت والتشرذم في صفوف الربيع العربي وثوراته.