الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ترامب يهدم الفوضى الخلاقة

ترامب يهدم الفوضى الخلاقة

08.12.2016
علاء الدين الخطيب


 جيرون
الاربعاء 7/12/2016
الفوضى الخلاقة لم تكن حكرًا على الشرق الأوسط، كما تمنى القوميون والإسلاميون، وغيرهم ممن لا يستطيعون العيش دون نظرية المؤامرة، ولم تكن أيضًا خلّاقة، بل هي فوضى أعقبت أخطاء السياسة الأميركية والغربية في تسرعها لبناء النظام العالمي الجديد، النظام الذي تبنته الولايات المتحدة بهدف رسم القرن الحادي والعشرين، بوصفه قرنًا أميركيًا. ظهرت أولى نتائج هذه الأخطاء في الأزمة المالية العالمية عام 2008 – 2009، تلك الأزمة -في الواقع- كانت أوضح مثال للفوضى التي تعم السوق العالمي، منذ أن أطلق ريغان وتاتشر عقال الـ “نيوليبرالية”.
توقعت كونداليزا رايس، ضابطة الإيقاع لجورج بوش، وحبيبة الزعماء العرب، أن الخلاص من هذه الفوضى ممكن بتوجيهها إلى العالم الثالث، وخاصة المنطقة الممتدة من شرق وجنوب المتوسط؛ وصولًا إلى وسط آسيا، على أمل أن تصيب الصين وروسيا في خاصرتيهما القاتلتين، وبالتالي؛ يمكن التحكم بأهم مناطق العالم جيوسياسيًا وطاقيًا. ثم حددت الولايات المتحدة استراتيجيتها بعيدة المدى التي تركز على الصين باسم “المحور الباسيفكي Pacific Pivot”، أواخر عام 2010، فتبنى أوباما وهيلاري كلينتون هذه النظرية وبدءا العمل على عملية إدارة الفوضى في هذه المنطقة، بعد أن كان بوش وكونداليزا قد أضرما الفتيل في العراق. بعض من صناع القرار الغربي، وخاصة الأميركي، سمع تحذيرات الاقتصاديين الغربيين من أن الأزمة المالية العالمية لم تنته، وأن الحلّين الوحيدين الممكنين هما: إما أن يجلس صناع القرار المالي والسياسي من كل الدول مع بعضهم بعضًا، ويضعوا قوانين للسوق العالمي تضمن عدالة نسبية بين الدول، وهذا مستحيل موضوعيًا؛ أو أن تشتعل الحروب في العالم. لقد اختارت السياسة الغربية الخيار الثاني، لكن من خلال ما أسموه “الحرب المتحكم بها عن بعد Proxy War”؛ فكانت الضحية الأولى انهيار الاقتصاد اليوناني، وتداعي الاقتصاد الإيطالي والإسباني، وبدأت التجارب في ليبيا وأوكرانيا، ثم كان الامتحان الصعب في سورية، (لا نقصد هنا أن ذلك تم وفق مخطط، بل العكس تمامًا هو نتائج غير محسوبة لبدايات تفجر الفوضى العبثية).
لم يلتفت صناع القرار الأميركي والغربي إلى ضرورة توازي تطور النظام العالمي الجديد مع تطوير النظام المسيطر على هذه الدول داخليًا منذ عقود، فلم يعد مبدأ “دعه يعمل، دعه يمر”، الذي منح الرأسمالية النصر النهائي لحد الآن، قادرًا لوحده أن يحمي اتفاقيات تحرير التجارة والشركات العابرة للقارات، بينما تبقى البنية الاقتصادية داخل الدول الأغنى هي نفسها تقريبًا، كما كانت منذ عقود طويلة. كبرى الشركات الغربية تضخمت وتوسعت عالميًا، وتسارعت مؤشرات ربحها، لكن توزيع الثروة داخل بلادها الأم، الحامية لأصولها المادية والضامنة لأمان حركتها سياسيًا وحتى عسكريًا، بقي يتراجع ويزداد ظلمًا. وبنفس الوقت خرج العملاق الصيني من كبوته، وبدأ ينازع السيطرة الغربية بنعومة، لكن بحزم وثبات، ساحبًا معه الدب الروسي المتربص لاقتناص اللحظة الملائمة.
مشكلة الحرية هي أنها جوهريًا تقوم على الفوضى، سواء على الصعيد الفردي أم الاجتماعي أم الدولي، ومع نظام عالمي يريد حرية كاملة في عبور الحدود، وزيادة تعقيد الشبكة المالية العالمية دون قيود، انتعشت الفوضى لتتجاوز النظام الذي اعتاد البشر وضعه؛ كي لا تتطرف الحرية إلى فوضى. لقد كانت الفوضى نتيجة حتمية للنظام العالمي الجديد، الذي بُني على عجل.
هذه الفوضى امتدت إلى داخل الدول الخالقة لها، خاصة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية، وقلبت الموازين التي كانت سائدة. فكان -أولًا- انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم انتصار رونالد ترامب في الانتخابات الأميركية، أقسى صفعة تلقاها النظام العالمي الجديد.
من المعروف -تاريخيًا- أن الفائز بالانتخابات الأميركية لا بد أن يمر عبر رضا اللوبيات المسيطرة على صناعة القرار الأميركي، وهذه اللوبيات -في الواقع- هي تجمع كبرى الشركات والمؤسسات المالية صاحبة المصلحة الأساسية، وحاملة الرخاء المعيشي للمواطن الأميركي العادي، إضافة إلى لوبيات يسمونها “اللوبيات غير الربحية”، والتي بعمقها امتداد للوبيات الاقتصادية والمالية. فماذا حدث مع ترامب؟
لم يحظَ ترامب بدعم كبرى اللوبيات الأميركية، بل وحاز أيضًا على سخرية وهجوم غالبية الإعلام الأميركي، ورفض غالبية المشاهير الأميركيين له، سواء أكانوا فنانين أم مفكرين أم إعلاميين، وحذر منه كبار السياسيين، بمن فيهم عديد من زملائه الجمهوريين، لكنه -مع ذلك- فاز بالرئاسة. فوز الرجل لم يكن مفاجئًا، بمعنى أنه خارج سياق مسيرة بنية السوق الأميركي، بل كان الظهور الأخطر للإشكالية المعقدة في المجتمعات الغربية، إنها الفوضى العبثية التي نتجت عن الفوضى العالمية في السوق، والتي لم يمنحها صناع القرار واللوبيات ما يكفي من اهتمام ورعاية؛ لأن ذلك مكلف جدًا، ولن يأتي بمرابح كبيرة وسريعة، لقد اعتقدوا أن ماكينة السوق والمال والإعلام ستتابع إدارتها للماكينة الانتخابية، لكن الظاهرة الترامبية حركت المستنقع بما قد يتحول إلى إعصار، إن لم يتحرك السوق بحكمةٍ وبعد نظر.
وعودة إلى الوراء قليلًا، لكن في بريطانيا، حيث أتى التصويت الشعبي على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مناقضًا أيضًا لمصالح كبرى الشركات والمؤسسات المالية البريطانية، ورافضًا لتوجهات كبريات وسائل الإعلام البريطانية، ولآراء النخبة البريطانية، هذا الرفض غير المعتاد في الغرب دلالة على انتشار خطِر للفوضى العبثية أيضًا.
لم يثبت فوز ترامب أن نظرية الفوضى الخلاقة، هي -في الواقع- فوضى عبثية فحسب، بل أيضًا حطّم فوز ترامب أسس نظرية المؤامرة، بأن هناك تجمع بشري صغير ما يدير مصير العالم والبشر. لا يمكننا شكر ترامب، على عنصريته وتعصبه ونرجسيته، لكن يمكننا شكره على أنه فضح مبكرًا عبثية الفوضى التي أطلقها النظام العالمي الجديد، وربما يكون أول المتعظين من هذا الدرس هو الشعب النمساوي الذي شارك بنسبة 73 بالمئة في الانتخابات الرئاسية المعادة في 4 كانون أول/ ديسمبر، فصوت لصالح المرشح المستقبل، فان ديربيلين، وأعلن رفضه لممثل اليمين المتطرف، نوبرت هوفر، إذن؛ ما زال هناك أمل بصد هدير الفوضى العبثية في العالم.