الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ترامب والجولان: من لا يملك ومن لا يستحق ومن لا قيمة له ولا يهتم

ترامب والجولان: من لا يملك ومن لا يستحق ومن لا قيمة له ولا يهتم

31.03.2019
يحيى مصطفى كامل


القدس العربي
السبت 30/3/2019
ربما قد تبدو "خوف"، تلك الكلمة التي اختارها وحيدةً بوب وودورد عنواناً لكتابه عن ترامب غريبةً ملغزةً بعض الشيء للوهلة الأولى، لكن مع مراقبة سيرته وكثيرٍ من تصريحاته وتحركاته يتبين، بل يتأكد كم كان موفقاً ذلك الصحافي المحنك الذي ذاعت شهرته وتكرست مكانته مع كتابه الكاشف الفاضح لنيكسون وتورطه في فضيحة "ووترغيت" التي قصمت رئاسته وأنهت حياته السياسية.
الأكيد أنه صفحةً تلو الأخرى في ذلك الكتاب يتمكن من تبرير ذلك العنوان، وخلق الانطباع وتأكيد الشعور بالخوف من ذلك الرجل الذي أقل ما يقال عنه أنه غير منضبطٍ بالمرة، تحكمه أفكارٌ وانطباعاتٌ مسبقة خام، تعكس خلفيته الاجتماعية والاقتصادية، لم تصقلها ثقافةٌ أو ممارسةٌ سياسية محترفة. ولم يزل ترامب بعد مضي كل ذلك الوقت من مدته الرئاسية يفاجئنا ويخيفنا بتغريداته المنفلتة التي يطلق فيها العنان تماماً للتعليق كيفما شاء على ما يعترض طريقه من موضوعات، بغض النظر عن دقتها وحساسيتها.
بيد أن أشد ما استوقفني تكراره في الكتاب هو مفهومه عن القوة والضعف، فهو لا يقبل بأي شكلٍ أن "يبدو" ضعيفاً، ويمقت بشدة ما يراها تصريحاتٍ أو مواقف ضعيفة من المحيطين به، في ما يخوض فيه أو يمسه من قضايا وصراعاتٍ، لا يسمو بعضها عن مستوى المشاحنات. فالرجل إذن، مشحوناً بأفكارٍ وعواطف ليست بعيدةٍ على الإطلاق عن النازية في عنصريتها وتعاليها الممجد للقوة الفظة، لا يقيم وزناً إلا للقوة، وهو يتباهى دائماً مهنئاً نفسه بأنه يقدم على ما لم يجرؤ عليه سابقوه من الرؤساء، وأنه يحقق على أرض الواقع ما اكتفوا هم بإضماره وتركه يسري بموافقةٍ سلبية.
والآن إذ يؤكد مرةً أخرى وبشكلٍ صارخ قدرته هذه إذ اعترف بـ"حق" إسرائيل في الجولان وفي الدفاع عن نفسها في سابقةٍ خطيرةٍ من ناحية الشكل على الأقل في تاريخ الإدارات الأمريكية، فإنه يتعين علينا أن نسأل عن مغزى هذه الخطوة والأهم، كيف وصلنا إليها.
لست مبالغاً على الإطلاق إذ أؤكد أن هذه الخطوة التي لا أراها تغير كثيراً من الناحية الفعلية الواقع على الأرض لم تأت من الفراغ، بل هي إذ تشرعن في خطوةٍ نزقةٍ وقحة الاحتلال وسطوة القوة الغشوم، تختزل العديد من المتغيرات العالمية في ما يخص تحورات الأفكار والتحالفات والانحيازات وتوازنات القوة، للاعبين الاساسيين، بيد أننا إذ نضع في اعتبارنا أن ترامب مهما كان جنوحه ومهما بلغت رعونته ليس مطلق السلطات، بل تحدده مراكز قوى أخرى في الإدارة والكونغرس على الأقل، فيجب أن نتذكر ونشير إلى أن تلك ليست الخطوة الأولى في الاتجاه نفسه، فقد مهد لها أواخر العام الماضي تصويتٌ أمريكي ضد الإدانة السنوية الرمزية التي تصدر عن الأمم المتحدة لاحتلال الجولان، والأهم من ذلك الاعتراف بالقدس عاصمةً أبدية ً موحدة لإسرائيل، فترامب الذي جاء من خارج السياق التقليدي للسياسة الأمريكية، فلم يتدرج في بنية حزبه ( أو أي حزب آخر) معبراً عن تغيرٍ وأزمةٍ عميقتين وسخط مستعرٍ في طبقاتٍ وفئاتٍ ومناطق بعينها في المجتمع الأمريكي، كان الأجدر أن يكون العنوان لتلك الخطوة، التي تبدو هي الأخرى من خارج السياق التقليدي؛ لم يعد سراً أن ثمة وعياً لدى المحللين والمراقبين وبعض النخب السياسية والجمهور أن مكانة أمريكا تنزلق، وأن نحراً مستمراً ينتقص من هيمنتها. إن القوة تتسرب شرقاً وتحديداً لتصب في مصلحة الصين بقدرتها البشرية والصناعية وفوائضها المالية، التي تجسد طموحها فعلياً خطواتٌ واثقة واسعة بتوسيع أسطولها والاستزادة من حاملات الطائرات، بالإضافة إلى رصيدها من الأسلحة التقليدية والنوعية.
ترامب لا يقيم وزناً إلا للقوة، وهو يتباهى دائماً مهنئاً نفسه بأنه يقدم على ما لم يجرؤ عليه سابقوه من الرؤساء
في المقابل، فإن منطقتنا التي أنهكها الاستبداد وترميم بنى النظم التي قامت ضدها الثورات، فاستمرت بمزيجٍ من القمع الوحشي والمناورة وضعف وتشرذم المعارضة، هذه الأنظمة لا تكترث بقضية الجولان أو التحرر أو التنمية، فهذه العناوين أو الروابط لم تعد تحيل إلى همٍ أو شاغلٍ حقيقي لديها منذ زمنٍ بعيد، تذكرني بتلك اللافتة التي لم يزل النظام السوري يرفعها في المناسبات ممجداً الصداقة السوفييتية السورية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بسنوات. والشاهد أن هذه الأنظمة لم يعد يعنيها سوى البقاء، البقاء بشكله البدائي الفج، وهي لا ترى سنداً سوى في رضا الغرب والولايات المتحدة بالأساس. لقد ضيعت هذه الأنظمة شعوبها (وأبادتها بشتى الأسلحة في بعض الأمثلة) وضيعت حقوقها فهي لا تكترث الآن بما تراه شكليات.
هذا في ما يخص الدول الكبيرة التقليدية العريقة ذات الحضارة، والكتل السكانية الضخمة وعلى رأسها مصر، أما إذ تحركت شرقاً صوب دول الخليج الريعية بمشيخاتها وإماراتها وممالكها فحدث ولا حرج، فهي لا يعنيها سوى بقائها على حالها وتخشى التغيير، أي تغيير، في الدول العربية الكبيرة نحو المشاركة والتعددية، فهي لا تفهم هذا النموذج وليست لها به حاجة، كما أنها في العمق لا ترى إسرائيل عدواً ولا خطراً مهدداً، بل العدو بأل التعريف بالنسبة لها يقع شرقاً في الأساس، إيران، التي تمددت لتحيط بها شمالاً وجنوباً وغرباً أيضاً. من المعلوم أن بعضاً من دول الخليج مولت ودعمت الانقلاب في مصر، وهي جرت ولم تزل صوب إعادة تعريف وتحديد للأولويات والمخاطر لتلتقي مع أمريكا وإسرائيل في التعامل مع إيران كعدو.
على اندفاعه لم يصدر اعتراف ترامب عن حماقةٍ محضة، وإنما عن انحيازاتٍ قد يتدخل فيها المزاج بهذا القدر أو ذاك، إلا أن المصالح وتقديرات القوى تلعب دوراً أساسياً فيها، ففي غياب أي دورٍ عربي ذي قيمة (أو اهتمام في حقيقة الأمر) ومع إدراكه لتطابق مصالح تلك الأنظمة العربية الفعلي مع إسرائيل، يضاف إليه التشرذم والرهان الدائم الدوني والمنسحق، الذي لم ينفك على الدعم الأمريكي، فإنه لم ير وزناً ولا باعثاً على القلق من ردة فعل هذه الأنظمة، رآها ضعيفة فاقدة الشرعية الشعبية ولا وزن لها ولا قلق من أنظمتها. في المقابل هناك مكسب محتمل من اللوبي الصهيوني وجماعات الضغط واليمين الإسرائيلي بنفحة الدعم تلك لنتنياهو الذي يقترب من الانتخابات تحت وطأة اتهاماتٍ ثقيلة بالفساد والملاحقة القانونية.
ليس زمن التغيرات الكونية بصعود قوى وهبوط أخرى فحسب، وإنما يصادف ذلك زمن حصادٍ في منطقتنا من العالم لدول ما بعد الاستقلال، حصادٍ مرير لأنظمة فاشلة تأبى الرحيل، خير من يمثلها ويرمز لحالها رئيسٌ مقعد كان ينتوي الترشح لولايةٍ خامسة لولا يقظة وهبة الشعب، وما قد بدأ من قرابة الأربعين عاماً، برهان على كارتر وبلده الذي يملك أكثر من 99% من أوراق القضايا، انتهى بالخلط بين الواقعية السياسية والانهزام وغياب الثوابت والرؤى.
مرةً أخرى يثبت الطغيان كم يفسد الضمائر ويضعف مناعة الشعوب للاحتلال والتفريط والخسائر، في الماضي كانت الأنظمة تتشدق "بأعطى من لا يملك وعداً لمن لا يستحق" في إشارةٍ لبلفور والصهاينة، وكانت تقاطع وتمانع (على الأقل في الظاهر) لكن للأسف في ليل الثورة المضادة فإنها حتى فقدت القدرة على التظاهر بالاهتمام بصورةٍ مقنعة.