الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تحديات قانونية أمام اللجنة الدستورية (الجزء الأول)

تحديات قانونية أمام اللجنة الدستورية (الجزء الأول)

28.01.2019
علي حمدان


سوريا تي في
الاحد 27/1/2019
في الحقيقة، ما دفعني إلى كتابة هذه السطور أنه بعد النقاش مع كثير من الزملاء والأصدقاء في اللجنة الدستورية وفي هيئة المفاوضات، وجدت أن مسألة الإطار القانوني لعمل اللجنة الدستورية لم يتم طرحه حتى الآن. وبالتالي حاولت في هذا المقال البسيط تسليط الضوء على أهم التحديات القانونية التي قد تواجهها اللجنة الدستورية السورية.
فمن المعروف أنه إذا تم وضع الدستور في أوقات الاستقرار تكون هناك خيارات كثيرة أمام الفاعلين، بما فيها مستوًى أعلى من المشاركة العامّة. أما إذا كان البلد خارجًا من حالة نزاع داخلي أو خارجيّ فيكون هناك ميل نحو عمليّة أكثر إحكامًا، مع قدر محدود من المشاورات العامّة، أو من دونها على الإطلاق. ومن الواضح أن المفاوضات السورية أصبحت تأخذ شكل تسوية دستوريّة، وفي هذه الحالة تكون للعمليّة الدستورية خصوصيّة، وكثيرًا ما تكون سرّيّة، وتخضع بالكامل لسيادة زعماء الأطراف المتنازعة مع قليل من المشاركة العامّة وكثير من التدخل الدولي.
من الواضح أن المفاوضات السورية أصبحت تأخذ شكل تسوية دستوريّة، وفي هذه الحالة تكون للعمليّة الدستورية خصوصيّة، وكثيرًا ما تكون سرّيّة
ويبدو أن وضع الدستور السوري القادم سيكون مهمة معقّدة، تنطوي على عددٍ من المهامّ والمراحل وتتميز بكثرة الفاعلين والمؤسّسات. من العناصر الأساسيّة لتصميم عملية ما أن تراجع المهام وتحسم كيفيّة تخصيصها والحصول على الموارد اللازمة للقيام بها، والتسلسل الذي تجري به هذه المهامّ. في الأقسام التالية تناقش ببعض من التفصيل الخيارات المتاحة لكل واحدةٍ من هذه القضايا، وبعض المهامّ الرئيسيّة التي كثيرًا ما تجري كجزءٍ من العمليّة.
سنقسم هذه الدراسة إلى عدة أجزاء ليسهل على القارئ قراءتها وفهمها جيدا. في هذا الجزء الأول، سنطرح مسألة التسلسل الزمني للعملية الدستورية ومسألة المواعيد النهائية لهذه العملية وهل تستطيع اللجنة الدستورية تحديدها؟
التحدي الأول: التسلسل الزمني للمراحل المختلفة
نقصد بعبارة التسلسل الزمني للمراحل، كيف سيتم تنظيم المراحل المختلفة للعمليّة وترتيبها؟ وما إذا كانت هناك حدود فاصلة واضحة بينها، وما إذا كانت بداية العمليّة ونهايتها تعتمدان على عمليّات وقرارات متوازية. لدينا هنا قضيّتان منفصلتان تمامًا، تنشأ الأولى عندما يكون وضع الدستور جزءًا من عمليّة أوسع لإنهاء النزاع المسلح وإقامة نظام سلميّ. يكون السؤال عندئذٍ: بأيّة مرحلة يصبح وضع الدستور مجديًا ومركزيًّا؟ فقد تكون هناك مسائل مبدئيّة مهمّة يجب حلُّها أوّلاً: وقف إطلاق النار، السيطرة على الأسلحة، وتدابير أخرى لبناء الثقة، وتفاهمات مبدئيّة حول عمليّات كشف الحقيقة والمصالحة، والمفاوضات على الإفلات من العقاب، وبعض الترتيبات المؤقّتة من السماح للمتمرِّدين أو المجموعات المستبعدة بأداء دور في مسائل الحكم اليوميّة، وذلك قبل قيام الأطراف بالتفاوض على مبادئ النظام الدستوريّ الجديد.
ما لم يتم التعامل مع هذه المسائل أوّلاً وبشكلٍ مقبول ومرضٍ، فقد تتعثّر الأطراف في عمليّة وضع الدستور. ولكن قد يتطلّب الأمر اتّفاقًا عريضًا من نوعٍ ما حول كيفيّة إدارة الدولة في المستقبل أي مبادئ الدستور الجديد، وذلك للتعامل مع القضايا المبدئيّة المذكورة أعلاه. وأحيانًا يكون هناك موقف وطنيّ محدّد يحكم مسألة التوقيت.
في أي وضع لم ينتهِ فيه النزاع بشكلٍ كامل يكون أحد العوامل ذات الصلة الداخلة في قرار توقيت عمليّة وضع الدستور هو اعتبار المرحلة التي يمكن أن تتحقّق فيها أكبر مشاركةٍ عامّة، والتي قد تكون بعد وقف إطلاق النار بفترة طويلة جدًّا. قد يحدث أحيانًا أن مثل هذه المشاركة تتوسّع مع سير العمليّة خطوات إلى الأمام، وتستقرّ المسائل، ويبدأ الناس يشعرون بأمان أكثر. وبالتالي عندما لا تكون المشاركة العامّة الكبيرة مجدية، من الأفضل أن يتم التركيز على الترتيبات المؤقّتة، والنهوض بأكبر قدر ممكن من المشاركة العامّة، ولكن مع إبقاء خيار العمليّة الأكثر تشاركًا مفتوحًا لما بعد.
هناك إشكالات أخرى في عمليّة وضع الدساتير في مراحل النزاع وما بعد النزاع، وهي الموازنة بين بناء السلام الذي ربّما يكون مفضَّلاَ لدى المجتمع الدوليّ، وبين الضغوط العامّة المحلّيّة لإيجاد دستور جديد؛ حوافز وقف القتال مقابل المحاكمات لمرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة، ما يثير أسئلة صعبة حول الإفلات من العقاب، مضافًا إليها حظر العفو بمقتضى المعايير الدوليّة الناشئة، والاختيار ما بين إجراء الانتخابات قبل العمليّة، ومن جهة حتميّة بناء الثقة، بين الطوائف المتحاربة وبينها وبين عامّة الشعب من جهة أخرى
ويبدو أن هذه الجماعات تم إعطاؤها دورا في اللجنة الدستورية السورية ضمن ما يسمى بالثلث الثالث (المجتمع المدني) ولكن المشكلة أنه حتى كتابة هذه السطور لم يتم الاتفاق على أعضاء الثلث الثالث
القضيّة الأخرى المتعلّقة بتحديد التسلسل الزمني هي متى يستشار الشعب: قبل تحضير مسودّة المشروع أم بعده. المشاورات اللاحقة تتيح للجمهور فرصة التعليق على مقترحات ملموسة، أمّا المشاورات السابقة فتوفِّر نطاقًا أكبر للتعبير عن الآراء العامّة وتحسين المبادرات الشعبيّة.
طوال عمليّة وضع الدستور هناك كثير من الأفراد والأحزاب والمجموعات المحلّيّة والجماعات ذات المصالح يؤدّون دورًا فيها، ويعطون من وقتهم، وينخرطون بحماسة، ويمارسون الضغط السياسيّ. إذن عند تخطيط المراحل المختلفة يكون من الضروريّ الاتّفاق على دور هؤلاء الفاعلين، وما شكل تمثيلهم، وكيف سيعبّرون عن آرائهم، وما الدور الذي سيؤدّونه في صنع القرار الفعلي. ويبدو أن هذه الجماعات تم إعطاؤها دورا في اللجنة الدستورية السورية ضمن ما يسمى بالثلث الثالث (المجتمع المدني) ولكن المشكلة أنه حتى كتابة هذه السطور لم يتم الاتفاق على أعضاء الثلث الثالث واستقال المبعوث الدولي ديمستورا دون أن يستطيع تحقيق أي اختراق في هذا المجال. الإشكالية هنا أن كل طرف من أطراف المفاوضات يريد ترشيح مؤيديه إلى إخراج هذا الثلث الثالث من حياديته. والحل برأينا أن يتم إلغاء هذا الشكل من التمثيل (التقسيم الثلاثي) والاكتفاء بطرفين فقط في اللجنة الدستورية بدلا من ثلاث، ولكن مع إلزام الطرفين الرئيسين بأن يكون للمجتمع المدني تمثيلا محترما في وفديهما.
التحدي الثاني: المواعيد النهائيّة
من المؤكّد أن المواعيد النهائيّة يمكن أن تكون مفيدة، لكنّها تحتاج إلى آليّة تنفيذ، أو طريقة ما لمعاقبة من لا يلتزم بها. والواقع أن المواعيد النهائيّة كثيرًا ما تخفق بسبب عدم وجود الإرادة السياسيّة، أو أن بعض المسائل العالقة من الماضي لم يتم التعامل معها. فالحقيقة أن عمليّات وضع الدساتير أصبحت الآن غايةً في التعقيد، وتتطلب توافق الآراء عند المراحل المختلفة لكي تواصل السير، لكنّ من السهل الافتراض خطأً أنَّ العمليّة ستكون سلسة.
وقد استغرق المؤتمر الدستوريّ للولايات المتّحدة حوالي أربعة أشهر؛ واستغرق تصديق الولايات عليه أربعين شهرًا إضافيًّا. وفي مثال آخر بقيت الجمعيّة التأسيسيّة الهنديّة منعقدة من عام 1946 حتّى 1949. واستغرقت العمليّة الإريتريّة ثمانية وثلاثين شهرًا من وقت إعلان الجمعيّة الدستوريّة حتّى التصديق على الدستور. واحتاجت العمليّة في جنوب إفريقيا إلى خمس سنوات من بداية المفاوضات المتعدّدة الأطراف إلى اعتماد الدستور النهائيّ.
بصراحة مطلقة يجب الاعتراف بأن المسألة السورية هي أكثر تعقيدا من الأمثلة التي أوردناها أعلاه، والسبب الرئيس هو غياب الإرادة السياسية من طرف النظام ومن يقف في صفه، وضعف موقف هيئة المفاوضات
لا نريد من هذا أن نزرع التشاؤم في نفوس اللاعبين في الملعب السوري، ولكن وبصراحة مطلقة يجب الاعتراف بأن المسألة السورية هي أكثر تعقيدا من الأمثلة التي أوردناها أعلاه، والسبب الرئيس هو غياب الإرادة السياسية من طرف النظام ومن يقف في صفه، وضعف موقف هيئة المفاوضات خاصة بعد سيطرة القوات الحكومية على معظم الأراضي السورية، مما أثر على قوة الهيئة في المفاوضات لأن قوة المفاوض السياسية تعتمد على قوته العسكرية.
هذه العوامل تجعل من مسألة تحديد مواعيد نهائية بالنسبة للجنة الدستورية السورية، أمرا شديد التعقيد ورهنا للظروف المتغيرة، ولكن هذا لا يمنع هيئة المفاوضات من الاستمرار بالضغط من أجل الحصول على بعض المواعيد المبدئية، وإلا سيكون حالها كحال من يسبح في بحر ولا يعرف في أي جهة يقع الشاطئ.