الرئيسة \  تقارير  \  تأتي الرياح بما لا يشتهي بوتين.. ماذا يعني انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو”؟

تأتي الرياح بما لا يشتهي بوتين.. ماذا يعني انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو”؟

26.05.2022
محمد محمود السيد


محمد محمود السيد
ساسة بوست
الاربعاء 25-5-2022
على الرغم من انصراف أنظار العالم عن الأخبار اليومية للحرب في أوكرانيا التي اندلعت في 24 فبراير (شباط) 2022، فإن تداعياتها ما زالت تتصدر وسائل الإعلام العالمية، سواء على صعيد الاقتصاد واحتمالية اندلاع أزمة غذاء حادة على مستوى العالم، أو على صعيد الاصطفافات السياسية عالميًّا أو على مستوى إعادة ترتيب المشهد الأمني الأوروبي.
وعلى رأس تداعيات الحرب يأتي تقدم كل من فنلندا والسويد بطلب رسمي في 18 مايو (أيار) 2022 للانضمام إلى حلف الناتو، على الرغم من تحذيرات روسيا، وهو الطلب الذي لاقى ترحيبًا واسع النطاق من طرف “الناتو”، إذ صرَّح الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرج قائلًا:
“أرحب بحرارة بطلبات فنلندا والسويد للانضمام إلى الناتو. أنتم أقرب شركائنا”.
وتقوم دول الحلف الـ30 حاليًا بتقييم طلبي فنلندا والسويد، ولا يلوح في الأفق إلا عقبة تركيا، والذي سيعوق اعتراضها انضمام الدولتين إلى الحلف، ولكن إذا جرى إقناع أنقرة وسارت محادثات الانضمام كما يرغب الغرب، فيمكن أن يصبح البلدان عضوين بـ”الناتو” في غضون بضعة أشهر، إذ عادةً ما تستغرق هذه العملية من ثمانية إلى 12 شهرًا، لكن “الناتو” يريد التحرك بسرعة نظرًا إلى التهديد الذي تشكله روسيا على دول الشمال في الحلف، في ظل حماسة الولايات المتحدة لهذه الخطوة.
وبات الرأي العام في كل من فنلندا والسويد متوافقًا بشكل كبير مع خطوة الانضمام إلى “الناتو”، وذلك في تحول دراماتيكي خلال أشهر معدودة، ولا يمكن إغفال أن فنلندا والسويد حاليًا هما أقرب شركاء الناتو في أوروبا، ولديهما نظم سياسية مستقرة وقوات مسلحة جيدة التمويل، ويساهم البلدان في عمليات التحالف العسكرية والشرطة الجوية.
وبعيدًا عن احتمالات قبول الطلب أو رفضه، فإن إقدام دولتين تأسست سياستهما الخارجية لعقود على مبدأ الحياد، وتشترك إحداهما [فنلندا] في حدود مع روسيا تبلغ 800 ميل، على هذه الخطوة، هو تطور يستحق الوقوف عنده كثيرًا، بل يعتقد بعض المحللين أنه ربما يصبح أحد أهم التغييرات في البنية الأمنية في أوروبا منذ عقود.
بل يرى العديد من الخبراء أن تقدم السويد وفنلندا بطلب للانضمام إلى حلف الناتو، في هذا التوقيت، هو تطور دراماتيكي لدولتين حددتا هويتهما الجيوسياسية حول عدم الانحياز، لعقود في حالة فنلندا، ولقرنين في حالة السويد.
دلالات التوقيت.. بوتين يخلق أعداءً إن لم يجد له عدوًّا
في السنوات الأخيرة، أصبحت فنلندا والسويد شريكتين قويتين لحلف الناتو، بمستويات تعاون توازي نظيرتها لدى الأعضاء، فقد انخرط البلدان في التدريبات العسكرية ومشاركة المعلومات الاستخبارية مع “الناتو”؛ ودعَّم البلدان مهمة “الناتو” في أفغانستان. لكنهما تخلَّتا عن العضوية الرسمية، واختارا عدم تحميل أنفسهم بأعباء وضوابط لا تناسب عقيدتهم السياسية، وهو خيار ضمن لهم مكانة متميزة في المجتمع الأوروبي، دون صدامات مع روسيا.
إذن لماذا أقدمت الدولتان على التخلي عن سياسة الحياد الطويلة والناجحة، واتخاذ خطوة تنطوي على تكاليف ومخاطر كبيرة في المستقبل؟ خصوصًا أن الأداء العسكري السيئ لروسيا في أوكرانيا، حسب التقييم الغربي، كان من المتوقع أن يجعل السويد وفنلندا تشعران بأمان أكبر.
فقد أظهرت الحرب –وفق التحليلات الغربية– أن القوات المسلحة الروسية ليست قوية بما يكفي لغزو دول أخرى، كما أن مزيج العقوبات الغربية، وتكاليف الحرب نفسها، واستمرار هجرة الأدمغة من الشباب الروس الموهوبين، سيُقلِّل من إمكانات القوة في البلاد لسنوات قادمة.
ومن المثير للتأمل أن البلدين تمسكا بسياسة الحياد طوال الحرب الباردة، عندما كانت القوة السوفيتية في أوجها، ناهيك عن أن الأحزاب الحاكمة في البلدين طالما عارضت عضوية “الناتو”، وهو موقف كرَّره رؤساء الوزراء الحاليين في كلا البلدين، على اعتبار أن هذل الانضمام إلى “الناتو” سيزعزع استقرار أوروبا أكثر.
ولكن يبدو أن الحرب الروسية على أوكرانيا كانت شديدة التأثير في البلدين، ولن يكون من قبيل المبالغة إذا اعتُبرت صدمة ساهمت في إحداث تحول سريع في وجهتي نظر رئيسة وزراء السويد، ماجدالينا أندرسون (المنتمية لحزب العمال الديمقراطي الاشتراكي السويدي)، ورئيسة وزراء فنلندا، سانا مارين (المنتمية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الفنلندي).
فقد أشارت أندرسون إلى أن: “الغزو الروسي غير المبرر وغير القانوني لأوكرانيا، يقوض النظام الأمني الأوروبي، الذي تؤسس عليه السويد سياستها الأمنية”، ورأت أنه من غير المستبعد أن تُزيد روسيا من ضغوطها على بلادها، ومن ثم فإن عدم امتلاك السويد لعضوية “الناتو” يضعها في موقف ضعيف للغاية.
أمَّا رئيس فنلندا، سولي نينيستو، فقد ذكر إن بلاده تسعى للحصول على عضوية “الناتو” لأن الغزو الروسي أثبت أن الكرملين لا يحترم دول عدم الانحياز رسميًّا، وأشار إلى أنه لم يعد هناك متسع لعدم الانحياز، في ظل عالم أكثر انقسامًا.
ويُجادل بعض علماء السياسة بأن مستوى التهديد الذي تشكله أي دولة لغيرها من الدول لا يعتمد فقط على مقدار قوتها العسكرية، ولكنه يعتمد أيضًا على مدى قربها الجغرافي، ونواياها وقدرتها على اتخاذ قرار الحرب، ويبدو أن تلك النقطة تحديدًا هي السبب في التغيرات الإستراتيجية في الفكر السويدي والفنلندي، فالبلدان ليسا معنيين بدرجة كبيرة بأسباب غزو روسيا لأوكرانيا، ولكن ما ولَّد الشعور بالخوف، هو تبني بوتين لخيار الحرب، أو الغزو واسع النطاق، هو خيار يمكن تكراره تحت دوافع وأسباب مختلفة، في فترات لاحقة.
فقد شعرت فنلندا بالصدمة بسبب تاريخها وحدودها الممتدة مع روسيا، فذكر جوناس كونتا، عضو البرلمان من حزب الوسط الفنلندي الذي يعمل في لجنة الدفاع، أن الذاكرة المشتركة لهجوم الاتحاد السوفيتي على فنلندا في عام 1939 أدت إلى إجابة منطقية:
“أدرك الفنلنديون أن ذلك يمكن أن يحدث لهم”.
وهذا التصميم الفنلندي جذب معه السويد، والتي طالما كانت أكثر تشددًا تجاه مسألة عضوية “الناتو”، ولكن الشراكة الثنائية القوية بين فنلندا والسويد تضمن عدم قيام أي منهما بأي خطوة إذا اعتقدا أن الآخر سيرفض، وذكر إركي توميوخا، الاشتراكي الديمقراطي في البرلمان الفنلندي، والذي شغل سابقًا منصب وزير الشئون الخارجية:
“أود أن أؤكد أننا نقوم بذلك معًا”.
وربما كان لافتًا، بالنسبة لستوكهولم وهلسنكي، قدرة حلف الناتو على إمداد أوكرانيا بسرعة بأسلحة متطورة، وتميز الأداء الغربي ببراعة لوجستية في هذا الصدد، وهو ما منح عضوية “الناتو” قيمة أكبر في نظر البلدين.
ويضاف إلى ذلك تحولات الرأي العام تجاه هذه القضية في كلا البلدين، ففي فنلندا، كان أولئك الداعمون لانضمام البلاد لحلف الناتو لا يتخطوا نسبة 20% من إجمالي السكان، وارتفعت هذه النسبة قليلًا لتصل إلى حدود الـ30% في يناير (كانون الثاني) 2022، ثم قفزت بعد الحرب إلى 53%، ووصلت في مايو  (أيار) 2022 إلى 76%، وهو الأمر الذي تكرر في السويد، ووصلت نسبة تأييد الانضمام إلى الناتو في مايو 2022 إلى 57%، بالنظر إلى أن السويديين كانوا فيما سبق أكثر تشددًا تجاه التمسك بسياسية الحياد.
تحولات هيكل الأمن الأوروبي
من منظور إستراتيجي واسع، يبدو أن انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو رسميًّا في هذا التوقيت، سيكون مكسبًا كبيرًا للغرب، فبعيدًا عن الانتصار المعنوي الذي سيحققه الحلف، كون أن الحرب الروسية التي شُنت من أجل حرمان أوكرانيا من الانضمام إلى “الناتو”، قد أسفرت عن انضمام دول أخرى للحلف.
فيبدو واضحًا أن التوسع الجديد للحلف، حال حدوثه، سيمنحه حدودًا أطول مع روسيا، وقدرة أوسع على الدفاع عن مصالح أعضائه في المجالات الجوية والبحرية والسيبرانية، بما في ذلك في الدول الواقعة في أقصى شمال أوروبا.
كما أن إدراج فنلندا والسويد إلى الحلف سيدفع “الناتو” إلى تغيير طريقة تخطيطه العسكري في مناطق الشمال والقطب الشمالي والبلطيق، وسيكون لديه وصول إلى جبهة جديدة يمكن من خلالها الضغط على روسيا، كما ستخلق عضوية البلدين العمق الإستراتيجي الذي يحتاجه “الناتو” للدفاع عن دول البلطيق، خاصةً في ضوء الوضع الجيد للسويد وفنلندا بصفتهما مركزَي استخبارات معلوماتية بشأن روسيا.
وعلى جانب فإن انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو”، سيُغيِّر البنية الأمنية لشمال أوروبا، فستجلب كل دولة قدرات عسكرية كبيرة إلى التحالف؛ إذ تحتفظ فنلندا بجيش قوامه 280 ألف جندي و900 ألف جندي احتياطي، وتنفق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وتمتلك 62 طائرة مقاتلة من طراز F-18، وأكملت مؤخرًا شراء 64 طائرة من طراز F-35، بالإضافة إلى امتلاكها قوة مدفعية متميزة، وقدرات استخباراتية وسيبرانية هي الأكثر تطورًا في أوروبا. وهو الأمر ذاته في حالة السويد، التي تمتلك قوات جوية وبحرية قوية، وخاصة الغواصات، بالإضافة إلى مقاتلات جريبن السويدية المتقدمة.
وهنا تشير بعض التحليلات إلى القوة العسكرية للسويد وفنلندا، بجانب النرويج والدنمارك، ستمنح الناتو السيطرة على المنطقة بأكملها، وستجعل الدفاع عن إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ضد روسيا أكثر سهولة، لأن الأراضي والمجال الجوي السويديين على وجه الخصوص مهمان لمثل هذه الجهود، ووفقًا للخبراء في السويد وفنلندا، فإن هذا وسيؤدي إلى تعزيز الردع وتقليل احتمالية نشوب صراعات في المنطقة.
وفي هذا الإطار، قال ستيفن هوريل، الباحث في مركز تحليل السياسة الأوروبية:
“تحدث بوتين قبل غزو أوكرانيا عن إعادة رسم هيكل الأمن العالمي.. حسنًا، هذا شيء حققه، لكنني أعتقد أنه ليس بالطريقة التي أرادها تمامًا”.
روسيا الغاضبة.. ولكن
أعربت روسيا عن غضبها الشديد بسبب الخطوة الأخيرة للسويد وفنلندا، فقالت وزارة الخارجية الروسية إن هلسنكي يجب أن تكون على دراية بـ”عواقب” تحركها، وهدد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: “برد متماثل مماثل”.
وفي 14 مايو 2022، ذكرت الصحافة الروسية أن بوتين أبلغ الرئيس الفنلندي أن التخلي عن سياسة عدم الانحياز سيكون “خطأ” لأنه “لا توجد تهديدات لأمن فنلندا”، ولكن يبدو أن نبرة الروس تراجعت قليلًا بعد أيام، ففي 16 من الشهر نفسه، ذكر بوتين أنه ليس لدى روسيا مشكلات مع فنلندا والسويد، ومن ثم “لا يوجد تهديد مباشر لروسيا من التوسع ليشمل هذه الدول” ومع ذلك، حذَّر بوتين من أن توسيع البنية التحتية العسكرية هناك “سيثير ردنا بالتأكيد”.
إن تورط روسيا في حربها ضد أوكرانيا، من بين عوامل أخرى، تجعل أي نوع من التهديد العسكري ضد فنلندا أو السويد غير مُرجح، على الرغم من أن الخبراء والمسؤولين يعتقدون أن أنواعًا أخرى من الحروب المختلطة ممكنة، مثل حملات التضليل أو الهجمات الإلكترونية.
لكن عضوية فنلندا والسويد المرتقبة في “الناتو” –إذا حدثت- هي في النهاية هزيمة لروسيا، فبوتين لم يكن يرغب –من خلال حربه في أوكرانيا- في حرمان الناتو من التوسع فحسب، ولكن تقليص نفوذه في القارة بأكملها، ولكن يبدو أن الحرب جاءت بنتائج عكسية، ودفعت دولًا محايدة للتخلي عن حيادها، أو كما قال الرئيس الفنلندي، نينيستو، عندما سئل: كيف سيرد بوتين على قرار بلاده في الناتو:
“لقد تسببت في ذلك.. انظر إلى المرآة”.
وتتركز مخاوف روسيا الحقيقية في منطقة شبه جزيرة كولا، المجاورة مباشرةً لكل من الأراضي النرويجية والفنلندية، والتي تحوي قوات ومنشآت روسية حيوية ذات أهمية نووية كبيرة، بجانب أن فنلندا تقترب جغرافيًّا كثيرًا من المركز السكاني الرئيسي والمركز الصناعي، سانت بطرسبرج.
لهذا من المتوقع أن تحرص فنلندا والسويد على عدم استفزاز روسيا، بل تقديم التطمينات الأمنية، لتُكرر تجربة النرويج في “الناتو”، والتي نجحت في الجمع بين التكامل العسكري القوي مع “الناتو” ومنح روسيا سياسات تطمينية في الوقت ذاته، لذلك أيضًا، من المُرجح أن ترفض فنلندا والسويد إقامة قواعد دائمة للـ”ناتو” على أراضيهما، ومن المرجح أيضًا أن يتحفظا بشأن امتلاك أسلحة نووية، كما فعلت الدنمارك والنرويج عندما انضمتا إلى الحلف.