الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بين سمير قصير وجورج فلويد

بين سمير قصير وجورج فلويد

08.06.2020
خطيب بدلة



العربي الجديد
الاحد 7/6/2020
مرّت، قبل أيام، الذكرى الخامسة عشرة لاغتيال سمير قصير، الصحافي اللبناني الديمقراطي الذي كان يعارض الوجود السوري في لبنان، وينتقد، بشدة، السياسيين اللبنانيين المتحالفين معه.. لا شك في أن النظام السوري هو الذي اغتاله، بالتعاون مع المليشيات الطائفية التي تسمي نفسها "محور المقاومة"، إلا أن دمه ضاع بين قبائل القتلة، وأصبح رقماً بين الشخصيات التي اغتالتها المجموعات الإرهابية ذاتها خلال ثلاثين عاماً الماضية، من حسين مروة إلى مهدي عامل إلى رفيق الحريري..
لا توجد لدى النظام السوري مشكلة في قتل صحافي ما (قصير، أو طويل). المشكلة تكمن في الضجيج والشوشرة التي يمكن أن يتعرّض لها نظامٌ يحب أن يمشي بجوار الحائط ويقول يا رب سترك، فلو كان المستهدَفُ سورياً لقتلوه بطريقة توزيع الصدقات على المحتاجين، فلا تعلم يدُ النظام اليسرى مَنْ (قتل) بيده اليمنى؛ ببساطة: يخطفونه من الشارع، أو من أي مكان آخر، مثلما فعلوا مع عبد العزيز الخير، وغيره، ثم ينكرون وجوده، ويُصَفُّونه في أحد الأقبية، ويرفعون أيديهم إلى الأعلى ويدعون الله أن يقتل قاتلَه .. ولكن سمير قصير لبناني، يحمل الجنسية الفرنسية، فلا بد، إذن، من بعض الهياط والمياط، إلى حين أن تبرد قضيته، وتنطفئ، وتتحوّل إلى ذكرى سنوية يتحدّث عنها أبناء الأقلية الديمقراطية العربية، يتذكّرون بعض مناقبه، ويدينون قتلته المجهولين، ثم ينتقلون إلى شأن آخر.
في الفترة الأخيرة، ذاتها، قَتل شرطي أميركي أبيض مواطناً أسود اسمه جورج فلويد، خنقاً تحت ركبته، فانطلقت سلسلة كبيرة من الاحتجاجات التي وصلت إلى مستوى فرض منع التجول في مدينة واشنطن.. المتظاهرون الأميركان من بيض وسود أشعلوا الدنيا غضباً واحتجاجاً، وفي مينيابوليس شرع المتظاهرون يركلون سيارة الشرطة بأرجلهم، وزوجة الشرطي القاتل طلبت الطلاق منه لأنه عنصري. لا شك في وجود نزعة تمييز عنصري في المجتمع الأميركي، وتنظيمات يمينية متطرّفة ذات صبغة عرقية، ولكن الاحتجاجات الواسعة تدل على أن هذا المجتمع رافض، في الوقت ذاته، هذا التمييزَ. أضف إلى ذلك أن لدى الأميركان إحساس عالٍ بالمواطنة، وينظرون إلى القتيل بوصفه مواطناً أميركياً لا يحق لأحد، في الداخل أو في الخارج، مصادرة جزء من حريته، فما بالك بقتله؟
بالعودة إلى سيرة النظام السوري، نقرأ في أحدث إحصائية دولية أنه قتل، خلال تسع سنوات الأخيرة، ستمئة وتسعين ألف مواطن، وتكبدت البلاد خلال حربه على الشعب خسائر مقدارها 530 مليار دولار، وما جرى تخريبه من البنية التحتية لا يقل عن 40%.. ومع ذلك سارع إلى استنكار جريمة قتل فلويد، وتصدّر الفضائيةَ السورية مانشيت يندد بالتمييز العنصري في أميركا، ويدين وحشية النظام الأميركي في قمع الاحتجاجات!
إنه لمن الإجحاف، حقاً، أن تجري مقارنة من أي نوع كان بين النظام السياسي الديمقراطي الأميركي وحكم عصابة استولت على دولةٍ، وشرعت تحكمها بالحديد والنار، مثل عصابة الأسد التي تنص بعضُ مواد قوانينها الاستثنائية إن ضابط الأمن الذي يموت تحت يديه مواطنٌ ما في أثناء التحقيق لا يُجَرَّم، وإذا ارتكب أحد عناصر المخابرات جريمة قتل (تشبه جريمة الشرطي الأميركي أو تفوقها فظاعة) يستشيط رئيسُه المباشر غضباً ويقول له: بشرفي العسكري إذا أعدتها لإحلق لك شعرك ع الزيرو يا كرّ!
يعود تاريخ العبودية في أميركا إلى الأيام الأولى لتأسيس اتحاد الولايات الأميركية، وبلغ عدد الزنوج الذين اشتراهم رجال الأعمال الأميركان من القراصنة أربعة ملايين، وقد صدرت قوانين تشرعن هذا العمل، ولكن صراعاً حامياً بين التيارات السياسية المختلفة استغرق النصف الأول من القرن 19، توصلوا في نتيجته إلى انتصار تيار تحرير العبيد الذي قاده الرئيس أبراهام لينكولن، وصدر قانون يعتبرهم مواطنين، لا عبيداً، طبق من مطلع عام 1863