الرئيسة \  واحة اللقاء  \  انسحاب أمريكا من سوريا لا يخدم تركيا بالضرورة

انسحاب أمريكا من سوريا لا يخدم تركيا بالضرورة

23.12.2018
علي حسين باكير


القبس
السبت 22/12/2018
في خطوة مفاجئة من حيث التوقيت والمضمون، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأربعاء قرار سحب القوات الأمريكية المتواجدة من سوريا، بعد أن حقّقت هدفها المتمثّل في هزيمة تنظيم الدولة (داعش) وفق وصفه، وأشار الرئيس الأمريكي إلى أنّه مع هزيمة التنظيم ينتهي المبرر الذي وُجدت من أجله هذه القوات، وقد حان الوقت الآن لإعادة الجنود إلى بلادهم.
لا يكتفي قرار ترامب بالانسحاب الكامل من سوريا، وإنما يشمل أيضاً إيقاف الطلعات الجوّية التي تستهدف ضرب التنظيم، وباستثناء ذلك، لم يحمل القرار الصادم أيّ تفاصيل أخرى في ما يتعلق بدوافع اتخاذه وأهدافه وتوقيت صدوره وبرنامج تنفيذه، لكن وفقاً لترامب، فإن القرار لم يأت عن غفلة، وإنما جاء بعد أن تمّ التمهيد له علناً مراتٍ عديدة، الرئيس الأمريكي كان قد دعا بالفعل إلى الانسحاب سابقاً قبل أن يعود ويتراجع عن ذلك.
ما علاقة تركيا بالقرار؟
ربط كثيرون بين قرار ترامب والاتصال الذي جرى مؤخراً بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ذهب البعض أبعد من ذلك ليقول إنّ القرار هو نتيجة لصفقة جرت بين الطرفين وإنّ اتّخاذه في هذا التوقيت جاء بالتنسيق مع اللاعب التركي، لا سيما بعد تزايُد تهديدات أنقرة العلنية بالتدخّل العسكري في شرق الفرات، ما لم تسحب واشنطن الميليشيات الكردية الانفصالية من المناطق الحدودية معها في شمال سوريا.
وفقاً لمصادر صحافية تركية، فإن ترامب كان قد سأل نظيره التركي في الاتصال الهاتفي عمّا إذا كان بإمكان أنقرة تطهير المنطقة من تواجُد "داعش" إذا ما انسحبت القوات الأمريكية، فكان جواب الرئيس أردوغان بالإيجاب، الأمر الذي عجّل في إعلان ترامب عن قراره، ربما كان للموقف التركي تأثير في قرار الرئيس الأمريكي، لكن من السذاجة بمكان القول إنّ ترامب يتخذ قراراته لمراعاة حسابات الآخرين.
من الواضح تماماً أنّ الدافع الأساسي لهذا القرار يرتبط بمصالح ذاتية بالدرجة الأولى وبحسابات سياسية أمريكية داخلية لا علاقة لها بتركيا، الرئيس الأمريكي كان قد اعترف بنفسه بأنّ القرار يأتي في سياق تحقيق وعود انتخابية كان قد قطعها سابقاً، وهو يضع نصب عينيه الترشح لولاية رئاسية ثانية، هناك من يرجّح أيضاً أن يصبّ القرار في خانة تشتيت الانتباه عن المشاكل والفضائح التي يعاني منها ترامب محلّياً.
لم تعلّق أنقرة رسمياً على القرار الأمريكي في البداية، واتخذ موقفها طابع الحذر قبل أن يعلن وزير الخارجية "مولود تشاويش أوغلو" عن ترحيب بلاده بالخطوة بعد يومين من الكشف عنها.
تشير التقارير إلى أنّ ترامب يريد سحب قواته في غضون ٦٠ إلى ١٠٠ يوم، لكن هناك أسئلة لا توجد إجابة عليها حتى هذه اللحظة، هل ستوعز واشنطن إلى الميليشيات الكردية بالانسحاب من المناطق الشمالية قبل انسحاب قواتها؟ هل ستقوم بجمع الأسلحة التي وزعتها على هذه الميليشيات؟ هل ستقطع علاقاتها معها؟ هل ستبقي على التحالف أو الدعم أو على تفاهمات من نوع آخر حتى بعد الانسحاب؟ ما هو مصير المسؤولين الأمريكيين الذين تمّ تعيينهم مؤخراً في هذا الملف من أجل الحفاظ على التوازن في العلاقة مع تركيا في الملف السوري، كجيمس جيفري؟
الفرص والتحديات
ردود الفعل المسجّلة تشير إلى أنّ قرار الانسحاب من سوريا يخدم المصالح التركيّة بالدرجة الأولى، لكن مثل هذه القراءة غير دقيقة، على اعتبار أنّ مطالب أنقرة كان تتمحور حول ضرورة قطع واشنطن لعلاقاتها مع الميليشيات الكردية، وإيقاف الدعم العسكري المقدّم لها، والتحالف مع تركيا بدلاً من التحالف مع جماعة إرهابية، وليس انسحاب القوات الأمريكية بشكل كامل، وفي هذا السياق، يمكن وصف القرار الأمريكي على أنّه هروب إلى الأمام، وبهذا المعنى، فهو قد يخلق فرصاً لأنقرة، لكنّه سيخلق تحدّيات أكبر بالضرورة.
انسحاب واشنطن من داخل سوريا سيترك الميليشيات الكردية (بي واي دي) ضعيفة، وسيرضي هذا الأمر أنقرة بالطبع، وقد يسهّل مهمّتها في استئصال هذه الميليشيات التي تشكل تهديداً لأمنها القومي من المناطق الحدودية مع شمال سوريا، لكن في المقابل، فإن قرار ترامب قد يرتّب على الأتراك تحديات كبيرة وأعباء ضخمة.
في المقابل، سيخلق انسحاب القوات الأمريكية سباقاً عسكرياً بين تركيا وإيران وروسيا لملء الفراغ الحاصل، وقد تقطع الميليشيات الكردية الطريق على أنقرة باتفاق مع نظام الأسد أيضاً، ففي نهاية المطاف ليست هناك مشكلة حقيقية بين هذه الميليشيات والنظام السوري، والأخير قد يوافق على إبقاء سيطرتها على بعض المناطق، إنْ هي تعهّدت بمقاومة التدخّل التركي.
يؤكّد جميع هذه السيناريوهات أنّ خطوة الانسحاب الأمريكي لم تتم بالتشاور مع الجانب التركي، وإلا فإنه من المفترض أن يتم تسليم هذه المناطق لتركيا قبل الانسحاب منها، أو على الأقل هذا ما ستسعى إليه السلطات التركية الآن بعد علمها بالقرار.
من سيملأ الفراغ؟
تشير التقييمات الأولية إلى أنّ المستفيد الأكبر من هذه الخطوة الأمريكية بهذا الشكل الذي ستتم به هو محور "الأسد ــــ إيران ــــ روسيا"، في يونيو الماضي، حذّر وزير الدفاع الأمريكي من أنّ سحب القوات الأمريكية سيترك فراغاً في سوريا يتيح لنظام الأسد وحلفائه استغلاله، استقالة ماتيس الآن احتجاجاً على قرار ترامب تؤكّد صحّة مثل هذا التقييم.
الإيرانيون يمتلكون القدرة البشرية للسيطرة على الأرض، من خلال نظام الأسد وميليشياتهم العابرة للحدود والتشكيلات التي يسيطرون عليها، في المقابل، تمتلك موسكو القوّة النارية الكبرى في سوريا، ومع انسحاب واشنطن ستمتلك الحرية الكاملة للتحرك عسكرياً كما تشاء.
انسحاب أمريكا من المشهد، قد ينقل الصراع أيضاً إلى داخل محور "تركيا ــــ إيران ــــ روسيا" بعد أن كانت هذه الدول تحاول تحجيم التناقض الموجود بين أجنداتها المختلفة بالتصويب على الأجندة الأمريكية، وبهذا المعنى، تمتلك طهران وموسكو حوافز قوية لتمكين الأسد من السيطرة التامة على كامل مساحة سوريا، ومع انسحاب الولايات المتّحدة طوعاً، سيصبح من الأسهل لهما الضغط على تركيا، بعد أن كان التركيز يطول الجانب الأمريكي، يجادل البعض في أنّ أنقرة هي ثاني أكبر قوّة عسكرية في "الناتو"، وهي تمتلك ما يكفي للوقوف في وجه موسكو، لكن حتى لو افترضنا صحّة ذلك، فسيكون من غير الممكن لأنقرة مقارعة ثلاثة لاعبين في آنٍ معاً (روسيا، وإيران، والأسد)، لا سيما بعدما كانت تستفيد من الورقة الأمريكية للمناورة بين هذه الأطراف.
الخطوة الأمريكية ستختبر أيضاً عامل الثقة بين الأطراف الثلاثة، وإذا ما أصرّت تركيا على ملء الفراغ عَبْر تدخُّل عسكري، فسيكون هناك امتحان لنوايا الآخرين، لا سيما روسيا وإيران، هل هما مع الميليشيات الكردية؟ هل هما مع نظام الأسد؟ أم هل هما مع تركيا؟