الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الى أين سيأخذ بايدن العلاقات الأميركية - التركية؟ 

الى أين سيأخذ بايدن العلاقات الأميركية - التركية؟ 

21.11.2020
هشام ملحم


النهار العربي 
واشنطن
الخميس 19/11/2020 
سوف يواجه الرئيس جوزف بايدن فور دخوله البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني (يناير) المقبل عدداً من القضايا والعلاقات الثنائية التي تتطلب اهتماماً ملحاً، في طليعتها العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية مع الصين والتي توترت نوعياً في 2020، والعلاقات مع روسيا التي ستدخل مرحلة فاترة للغاية، وكذلك مع كوريا الشمالية التي لن تحظى باهتمام دبلوماسي من بايدن مماثل للاهتمام الذي أسبغه دونالد ترامب على كيم يونغ أون.  
في الشرق الأوسط سوف يرث بايدن أسوأ علاقات مع إيران منذ أزمة الرهائن قبل أكثر من 40 سنة. ولكن بايدن الذي يريد التوصل الى اتفاق دولي نووي مع إيران يتخطى الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس ترامب في 2018، يعني على الأقل انه سيعود الى الخيار الدبلوماسي مع ايران، وإن كانت فرص التوصل الى اتفاق جديد مع طهران تراوح بين الضئيلة للغاية والمعدومة. ولكن بايدن سيواجه تحدياً مباشراً وملحاً في الشرق الأوسط تمثله دولة "حليفة" قديمة، تتصرف في السنوات الماضية كدولة مناوئة لمصالح الولايات المتحدة وأوروبا في حوض المتوسط، هي تركيا. 
 خلال الحرب الباردة، حين كانت تركيا الدولة الوحيدة في حلف شمال الاطلسي (الناتو) التي لها حدود مشتركة مع الاتحاد السوفياتي، ما اعطاها أهمية مركزية في الحلف، كانت العلاقات الأميركية - التركية مضطربة وأحياناً فاترة بسبب هيمنة العسكر على القرار السياسي في أنقرة مباشرة في أعقاب الانقلابات العسكرية، أم في شكل غير مباشر وراء الأقنعة المدنية التي مثلت تركيا في الواجهة. التوتر بين واشنطن وأنقرة في ذلك الزمن وصل ذروته في 1974 في اعقاب غزو تركيا لشمال قبرص وتقسيم الجزيرة، ما دفع بالكونغرس الى فرض عقوبات عسكرية غير مسبوقة ضد دولة في حلف الناتو. 
حقبة رجب طيب أردوغان في السلطة والتي بدأت في 2002 هي الأطول في تاريخ الجمهورية التركية، ويمكن القول إنها غّيرت تركيا سياسياً وثقافياً واجتماعياً بطرق تفوق التغييرات الجذرية التي جلبها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال، عندما حوّل تركيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى الى دولة علمانية. في العقد الثاني من حقبته، قام أردوغان بتفريغ المؤسسات التركية شبه الديموقراطية من مضمونها، وحوّل حزبه الإسلامي، حزب "العدالة والتنمية" الى حركة إسلامية متعصبة ألبسها ثوباً تركياً "عثمانياً" شوفينياً، ووضعها في ايدي أوليغارشية تركية تهيمن عليها عائلته. سمات هذه الطبقة الحاكمة هي احتكار القرارات السياسية والاقتصادية، عبر ممارسات اوتوقراطية فاسدة. وهكذا بدأ أردوغان حربه ضد سلطة القانون، وتقليص الحريات الفردية التي لم تكن كاملة أبداً، بما في ذلك ترهيب وسائل الإعلام والصحافيين. وجاءت محاولة الإنقلاب الفاشلة في 2016، لتعطي أردوغان الفرصة - والغطاء السياسي - للقضاء على خصومه في الداخل، وتطهير الأجهزة البيروقراطية في الدولة من الذين يعتبرهم خصومه السياسيين والعلمانيين.  
تقرير وزارة الخارجية الأميركية حول حقوق الإنسان في تركيا حافل "بإنجازات" أردوغان في مجالات: القتل الاعتباطي، وقتل المعتقلين، وخطف المعارضين، والاعتقال الاعتباطي والتعذيب في السجون. 
 وفي السنوات القليلة الماضية انتهج أردوغان سياسات إقليمية وخارجية مناوئة لمصالح الولايات المتحدة، من بينها اجتياح شمال سوريا وضرب القوى السورية من كردية وعربية التي أدت دوراً مهماً في هزيمة ما سمي بتنظيم الدول الإسلامية (داعش) بالتنسيق مع الولايات المتحدة وحلفائها، بعد أن فتح أردوغان حدوده مع سوريا لسنوات طويلة لعبور "المجاهدين" الإسلاميين المتطرفين القادمين من أوروبا للانضمام الى التنظيمات الإسلامية الارهابية في سوريا.  
الدور العسكري التركي في ليبيا بارز ويشكل الآن خطراً على جنوب اوروبا في ضوء التوتر السياسي والعسكري بين تركيا وكل من عضوي "الناتو" فرنسا واليونان، خصوصاً بعد أن وقّعت تركيا مع الحكومة الليبية في طرابلس اتفاقاً يعطيها حق التنقيب عن الغاز والنفط في مياه متوسطية تدّعي اليونان وقبرص ملكيتها. ووصل تحدي أردوغان لحلف الناتو ولواشنطن الى ذروته حين قرر شراء نظام دفاعي جوي روسي مضاد للصواريخ معروف باسم S-400، وذلك في انتهاك واضح لنظام حلف الناتو. هذا القرار العدائي دفع بواشنطن الى تعليق برنامج تطوير طائرة F-35 المتطورة التي أرادت أنقرة شراءها، ولاحقاً تركيبها في تركيا، والى دعوات في الكونغرس لفرض حظر عسكري ضد أنقرة. ولا يمكن لتركيا تشغيل هذا النظام الصاروخي من دون مشاركة روسية، ما يعني كشف اسرار عمليات الناتو لروسيا. 
 وحتى قبل وصول بايدن الى البيت الأبيض، هناك نقاش في الأوساط السياسية والأكاديمية وأروقة مراكز البحوث في واشنطن بين تيار يدعو الى معاقبة أنقرة اذا لم تتخل كلياً عن صواريخ S-400 وان تتوصل الى تفاهم مع الولايات المتحدة بشأن سوريا، وتيار آخر يدعو الى إعادة تعيين العلاقة مع تركيا، (بداية جديدة) بشرط تجميد النظام الصاروخي الروسي، لأن تركيا دولة مهمة ويمكن لواشنطن أن تتعاون معها في المستقبل لاحتواء نزاعات المنطقة، كما أنها لا تزال ضرورية كعضو في حلف الناتو حيث توجد فيها قاعدتا أزمير وأنجرليك (التي يخزن فيها الناتو عشرات الرؤوس الحربية النووية) والتي يستخدمها سلاح الجو الأميركي في عملياته في المنطقة. وفي السنوات الماضية برزت أصوات أميركية تدعو حلف الناتو الى إيجاد آلية تؤدي الى تعليق عضوية أي دولة في الحلف تخالف نظامه أو حتى طردها، لأنه لا توجد حالياً في الناتو أية آلية من هذا النوع. 
يقول الباحث البارز في مجلس العلاقات الخارجية ستيفن كوك الخبير في الشؤون التركية في حوار مع "النهار العربي"، إن تركيا وصحافتها الناطقة بمعظمها باسم أردوغان تدعم التيار الأميركي الداعي الى بداية جديدة "واقعية" للعلاقات التركية - الأميركية. ويضيف: "هؤلاء يستغلون تفكيراً معيناً في واشنطن يدّعي أن أنقرة قادرة على المساعدة في احتواء النفوذين الروسي والإيراني في المنطقة. ولكن هذا التفكير يتجاهل حقيقة أن سياسة تركيا انتقائية وانتهازية في هذا المجال". وزاد كوك: "وهذا يعني انه لا يوجد بين الولايات المتحدة وتركيا اتفاق على المستوى الجيو-استراتيجي لتحقيق هذا الهدف، على الرغم من ادعاءات أنقرة وبعض الأصوات الأميركية التي يفترض أن تدرك ذلك". 
 ويشير الباحث كوك الى أن تركيا سوف تمثل تحدياً صعباً للرئيس الأميركي الجديد بايدن، لأن فريقه السياسي والأمني منقسم كما هي البيروقراطية الأميركية حول كيفية التعامل مع تركيا، بين من يحاول "إنقاذ" العلاقات، وبين من يريد معاقبة تعنت أردوغان واستهتاره بمصالح الولايات المتحدة. ويضيف أن "ليس من الواضح أين يقف الرئيس المنتخب. ما نعرفه هو مواقفه التي عبّر عنها في لقائه مع صحافيي صحيفة "النيويورك تايمس" في بداية حملته، حين وصف أردوغان بالأوتوقراطي، وحين أوحى بأن واشنطن يجب أن تدعم المعارضة التركية، وان تحاسب أردوغان. السؤال هو هل سيترجم بايدن هذه المواقف الى سياسة عملية؟ ربما نعم، وربما لا، لأن هناك من يدعي أن تركيا هي دولة مهمة ويجب ألا ندخل معها في نزاع بسبب حقوق الانسان وغيرها من القضايا الخلافية". 
ولكن كوك يعود الى القضايا الملحة التي لن يستطيع بايدن تجاهلها، وأبرزها منظومة صواريخ S-400، لأنه اذا لم تعد تركيا هذه المنظومة إلى روسيا او أن توافق في شكل رسمي على عدم تشغيلها أبداً، فإنها سوف تتعرض الى عقوبات أميركية "ليس فقط لأن شراء معدات عسكرية روسية يهدد حلف الناتو، بل ايضاً لأن بايدن يريد التخلص من التشويهات التي فرضها ترامب على البيروقراطية الأميركية وأن يعيد التوازن الى عمل الأجهزة الأميركية.  
يذكر أن "قانون مواجهة خصوم أميركا عبر العقوبات" والذي أقره الكونغرس في 2017 ضد روسيا وايران وكوريا الشمالية، يطالب بوضوح الرئيس الأميركي، "الذي يجب عليه" فرض العقوبات ضد كل من يسهل نقل التقنية العسكرية الروسية. ويرى الباحث كوك أن بايدن الذي خدم لأكثر من ثلاثين سنة في مجلس الشيوخ، ويؤمن بمثل هذه المؤسسات يريد اعادة الاعتبار اليها بعدما أضعفها وهمشها الرئيس ترامب.  
 يتابع كوك، أن "معاقبة تركيا ستكون بداية جيدة في هذا المجال، حتى ولو لجأ بايدن لاحقاً الى تعليقها اذا غيرت تركيا من سلوكها". 
 ويوافق كوك مع رأي سائد في واشنطن يرى أن دعاة البداية الجديدة مع تركيا، يتجاهلون المناخ المتصلب في العاصمة الأميركية، خصوصاً في الكونغرس ضد أردوغان وسياساته، لأن التوتر في العلاقات يتخطى الخلاف حول السلاح الروسي، ليشمل سوريا والعراق، والتوتر بين تركيا وإسرائيل، وعلاقات أنقرة مع حركة "حماس" في قطاع غزة، وضغوط أردوغان النافرة على واشنطن لتسليمه الداعية الإسلامي فتح الله غولين المقيم في ولاية بنسلفانيا منذ سنوات، والذي يتهمه أردوغان بدعم الإرهاب، مع انه لم يقدم أي دلائل تدعم تهمه. هناك ايضاً استياء أميركي من أردوغان لأنه يساهم في تأجيج العداء الثقافي والسياسي في بلاده ضد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. 
أيضاً، أي بداية جديدة بين واشنطن وأنقرة لن تجد صدى ايجابياً لدى حلفاء واشنطن في المنطقة مثل إسرائيل والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر. وفي هذا السياق، قال مسؤول خليجي معني بسياسة دولته الخارجية لـ"النهار العربي"، إن السعودية ودولة الامارات ومصر ترى أن الخطر التركي على مصالحها مماثل، وفي بعض الأحيان أسوأ من الخطر الإيراني، نظراً الى قدرة أنقرة على تنسيق سلوكها مع الحركات الإسلامية السنية المتشددة في المنطقة. المسؤول قال إن هذه الدول العربية تريد أن تنسق مواقفها المناهضة للسياسة التركية مع الولايات المتحدة ومع دول أوروبية وفي طليعتها فرنسا واليونان.  
 وأعرب المسؤول عن إحباطه لأن ألمانيا تتردد في مواجهة سياسات أردوغان المناوئة علناً لأوروبا، كما انتقد فرنسا، لأنها لا تقوم بما فيه الكفاية حتى الآن للتصدي للتحديات التركية إن كان في مجال التنقيب عن الطاقة في مياه المتوسط المتنازع عليها وتهديد أنقرة باستخدام القوة لتحقيق اهدافها، وبسبب دورها العسكري في ليبيا، والذي يجعلها مصدر خطر بعيد الأمد على جنوب أوروبا