الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الهارب دي مستورا

الهارب دي مستورا

22.10.2018
عمر قدور


المدن
الاحد 21/10/2018
لم يحظَ خبر تقديم المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا استقالته، التي يُفترض دخولها حيز التنفيذ نهاية الشهر المقبل، باهتمام في الأوساط المعنية بالشأن السوري. دي مستورا نفسه برر تنحيه بأنه لأسباب شخصية، ومن الواضح أنه لا يريد على غرار مسؤولين أمميين آخرين ربط استقالته باحتجاج أو اعتراض ما على سياسات دولية، وكأنه أراد بهذا التبرير تمرير خروجه من الباب الخلفي بهدوء شديد.
قد نقول أن هذا الخروج يليق به حقاً، فالسجل السوري للرجل خالٍ من الإنجازات التي تجعل من استقالته خبراً مهماً، وخلال ما يزيد عن خمسين شهراً من تسلمه مهمته لم يُظهر الحساسية المطلوبة من شخص يتابع عن كثب المقتلة التي ربما ستكون الأفظع في هذا القرن. دي مستورا تصرف طوال هذه المدة كموظف أمين لدى القوى الكبرى، فلم يكن للسوريين اعتبار في أجندته، والمرات التي بانت فيها كفة انحيازه بدا أقرب إلى مواقف أصدقاء الأسد، بل يصح القول بأنه كان مرتاحاً ومتناغماً جداً مع الانسحاب الأمريكي والغربي عموماً من الملف السوري، لأن عدم وجود رؤى عديدة متغايرة يجعل وظيفته أكثر بساطة.
من الاعتبار الأخير فقط يمكن الظن بأنه لم يعد مرتاحاً جداً في مهمته، ومشكلته هي مع أصدقائه الروس والإيرانيين قبل أن تكون مع أي طرف آخر. فموسكو تعتقد أنها أمسكت بالملف السوري إلى الحد الذي يتيح لها فرض إملاءاتها على الجميع، وفي مقدمهم الأمم المتحدة، وهي حاولت من قبل عبر ما سُمّي مؤتمر سوتشي نزع الورقة السياسية من المجتمع الدولي، أي أن المشروع الروسي يتضارب حتى مع الحد الأدنى الذي يعمل وفقه دي مستورا، وتحققه يعني إقالته من وظيفته فعلياً بما أن التصور الروسي مضاد أصلاً للقرارات الدولية التي أوجدت مهمته ومَن تسلمها سابقاً. واحد من هذه المظاهر نجده في محاولة نسف اللجنة الدستورية التي بذل دي مستورا جهداً كبيراً لتكون بديلاً عن المفاوضات السياسية، وعمل فيها على منح أرجحية غير معلنة لممثلي الأسد، ولم يكن هذا كافياً لإرضاء موسكو.
ورغم أن دي مستورا لا يتحمل مسؤولية المدّ والجشع الروسيين إلا أنه أدى دوره على أكمل وجه، فهو منذ التقط الموافقة الأمريكية على التدخل الروسي بات يراهن على نجاحه لإنجاح مهمته، وعلى الفوز بصفقة سياسية ما يخرج من خلالها كصاحب إنجاز. بالتأكيد يعرف الرجل أن أية صفقة يقبلها الروس ستكون على حساب حقوق السوريين، ويدرك من خلال تواصله مع سلطة الأسد أنه يتعامل مع سلطة غير مكترثة بالقوانين الدولية لتكترث بالقوانين المحلية الحالية أو المقبلة. تالياً يعرف أن الصفقة التي ينتظرها مهمتها فقط تجميل سلطة الأسد، وإظهاره كنظام قابل للتأهيل، إلا أن كل ذلك ما كان ليدفعه إلى تقديم استقالته احتجاجاً، وجلّ اهتمامه بقي منصبّاً على وجود توافق دولي يحمي وظيفته ويعده بنهاية خدمة جيدة وفق أسوأ المعايير الشكلية الغربية.
نستطيع أن نستذكر كيف كان الرجل يعرض نفسه وسيطاً في عمليات تهجير المدنيين، على نحو ما فعل عشية اقتحام الغوطة، وكيف تبنى الرواية التي تبرر الانقضاض الروسي على إدلب، قبل تراجع موسكو عن العملية بموجب تفاهم مع أنقرة. ونستطيع أن نستذكر دور مكتبه ونائبه في دمشق، حيث اقتصرت المهمة تقريباً على تغطية انتهاكات الأسد لعمل فرق الأمم المتحدة والقرارات الدولية الإنسانية، وهذا كله ظهر إلى الإعلام الغربي، من دون أن يخرج دي مستورا ليقرر الاستقالة على وقع الفضائح.
في وظيفته الأساسية اجتهد الرجل لإضعاف موقع المعارضة، رغم عدم حدوث مفاوضات سياسية جدية. لقد قام على هذا الصعيد بعمل استباقي يُحسب له، ولو أن المفاوضات التي تمنح أرجحية للأسد كما رتب لها لم تأتِ، وربما بات على قناعة بأنها ليست في متناوله. بدءاً من إشرافه الشخصي على مهزلة إشراك المجتمع المدني، في مفاوضات لا تحدث أصلاً، راح دي مستورا يوافق على الشخصيات التي يرشّحها الأسد ضمن حصته المنظورة، بينما يختار لتمثيل المعارضة أشخاصاً ليس لهم رصيد مجتمعي أو سياسي معروف، والميزة الوحيدة للبعض منهم هي الركاكة التي تجعلهم مطواعين لما يريده المبعوث الدولي منهم. على هامش المفاوضات المنتظرة ربما لم يحدث في أية سابقة شبيهة أن امتلأ المسرح بعدد هائل من الكومبارس، والهدف الوحيد الذي يمكن الجزم به هو تسخيف المسرحية ذاتها إلى أقصى حد وبإخلاص من المخرج نفسه.
وفق الاستعارة ذاتها ستكون مستغربة مبادرة المخرج إلى الاستقالة قبل موعد الافتتاح، إلا إذا افترضنا هربه من فداحة الفضيحة التي أعدّها، وهذا ما لا يتفق كثيراً مع مساره. يمكن لنا أن نفترض أيضاً أن المشرفين الكبار على إنتاج المسرحية على وشك التخلي عنها، وأنه اشتم هذه الرائحة في الجو فقرر الانسحاب. وقد يكون هذا الافتراض أقرب إلى الواقع لتوافقه مع مزاجي ترامب وبوتين، فالأول لا يخفي غرامه بالصفقات المنفردة خارج التوافقات الدولية، مثلما لا يخفي عداءه لكافة المنظمات والهيئات التي انضمت إليها بلاده بدعوى عدم عدالتها، والثاني يعتمد على بنيته التسلطية والتوسعية المعادية لمفهوم القانون برمته، ولا يريد أدنى حضور للمنظمات الدولية بوصفها ممثلة له. ذلك لا يؤشر تلقائياً إلى صفقة جاهزة بين الاثنين في الملف السوري، لكنه يدل على استغنائهما عن الواجهة الدولية واعتبارها في المتناول عندما يُطلب منها، بحضور دي مستورا أو بغيابه.
من المرجح أن يدرك دي مستورا انقضاء المرحلة التي كان واحداً من عناوينها، وقد أدى ما هو مطلوب فيها لجهة تمييع كذبة الحل السياسي في انتظار الحسم العسكري لصالح الأسد. لن يكون مهماً من يخلفه في وظيفته، والأسماء المتداولة حتى الآن لا تملك سجلاً وخبرة يُنتظر منهما فعالية ما. الطريف في الأمر أن مسؤولي الأسد أول من بادر إلى الترحيب برحيله، دونما تقدير أو وفاء لخدماته. وفي الواقع لن يكون غيابه ملحوظاً سوى من أولئك السوريين الذين توهموا أدواراً تفوق أحجامهم، بسبب انخراطهم في اللجان والمكاتب التي شكّلها بأسماء مختلفة مثل المجتمع المدني أو اللوبي النسائي وسواهما؛ هؤلاء هم كومبارس دي مستورا وأيتامه الذين انتهت صلاحيتهم أيضاً.