الرئيسة \  واحة اللقاء  \  النظام السوري ولعبة الإشارات المتناقضة 

النظام السوري ولعبة الإشارات المتناقضة 

04.08.2021
عبير نصر


العربي الجديد 
الثلاثاء 3/8/2021 
سرعان ما أصبح نظام الحكم في سورية نموذجاً حيّاً على خلق استقطابٍ طائفي صريح، قائمٍ على فسادٍ كبيرٍ، موشّح بغطاءٍ ليبرالي مرتبك. يستند إلى علاقات القرابة، أو إلى الجهوية والزبونية. في وقتٍ تبنّى فيه نظرةً شوفينيةً متعصبةً تجاه الشارع السوري، سعى من خلالها إلى تدجينه، وجعله مشبعاً بروح الخوف والانهزامية. ولم ينفكّ يمارسُ لعبةَ التضليل، والتشويش، ففي وقتٍ نادى فيه بالعقائد، والأيديولوجيات الشمولية التي لا يأتيها الباطل، على حدّ زعمه، نادى كذلك بالديمقراطية القائمة على مشروعية التنوع، والاختلاف، وعلى نسبية الحقيقة، واحتمال خطأ الذات. وكلّ ما أنجزه أنه أنهك نفسه في سوق المبرّرات، والمسوّغات، لأهمية ضبط الأنظمة الثقافية، والمجتمعية، فحوّل السوريين إلى مسوخٍ بشرية، تشكل رصيداً، وخزاناً دائماً لإنتاج الاستبداد، والتطرّف، والعدمية، والفوضى. تمخّض ذلك عن إنجاز أكبر وأخطر عملية إعدامٍ للكيان السوري. عملية تصوّر التغيير خراباً، والحريّة تفلتاً. ولعلّ التعسّف هو السمة الأساسية للخطاب السياسي في الداخل. ينادي المستبدّ بالديمقراطية بلغةٍ ساكنةٍ وقطعية، بينما يعلم، في قرارة نفسه جيداً، أنها ليست صيغة للحكم، إنّما هي أولاً ثقافة وطريقة حياة، وإنّ مسْخها إلى مجرّد آلياتٍ شكلانيةٍ فوقية، من شأنها تغليظ الحدود بينه وبين السوريين. 
لم يكن بشار الأسد صالحاً لا لزمن السلم، ولا لزمن الحرب على الإطلاق، فالمستبدّ لا يعرف لغة التنازل، ولا يقبل التفاوض على بعضٍ من سلطاته 
والأخطر من وجود التعسّف نفسه استخدامُه باسم القانونِ المفصّل على مقاس أصحاب المصالح، بحجّة الارتقاء بسورية من الدولة اللادولة في عهد الأسد الأب إلى الدولة القوية في عهد الابن. مبرّرين أنّ العنف المباشر المجرّد ضرورةٌ لازمةٌ للانتقال إلى هذه المرحلة، ولاحقاً إلى شكلٍ من الديمقراطية التوافقية العادلة، للحؤول دون نشوب نزاعٍ أهلي. وليس أدلّ على هذا التناقض والانفصام من المحاكمات الجائرة لنشطاء المجتمع السوري، الذين رفضوا الاستبداد حتى لو كانت قيوده من ذهب، أو كانت جدرانه قد شُيّدت من لافتات الفضيلة. محاكماتٌ فاقتْ، في معانيها ودلالاتها، ما حدث في ثمانينيات القرن الماضي. ما يشير إلى حقيقةٍ واضحة: أنّ النظام السوري يُصدر إشاراتٍ بالتعسّف والمنع وأخرى بالتراخي والسماح. إشارات بالتهديد والوعيد وأخرى بالإصلاح والتجديد. هذه اللغة المتناقضة باتت صمّامات أمانٍ، للتحاور مع شعبٍ محتقنٍ في الأساس. تُستخدم حسب الظرف والضرورة. وفاته أنّ الإكراه المغالي في القمع يصبح مرضاً ينهشُ الدولةَ ذاتها. وبدلاً من أن يكونَ سياجاً "لموازين القوى"، فإنه يصبح ساحةً "لمراكز قوى" متصارعة. على صعيد آخر، سعى النظام إلى منع تبلور حركةٍ اجتماعيةٍ ثقافيةٍ سياسيةٍ موحدة إزاء طروحاته، وآلياته، وممارساته الاستبدادية. والمفارقة الأكثر وضوحاً، في هذا السياق، أنّ سياسته الخارجية تتعامل بالنقدِ والاستهجان لخطابِ المتنفذين والأقوياء في النظام الدولي، واحتكامهم للقوة والعنف في حلّ المشكلات العالمية، وتنكّرهم لنداء الضعفاء لحوار الحضارات والمجتمعات. 
بطبيعة الحال، لم يكن بشّار الأسد صالحاً لا لزمن السلم، ولا لزمن الحرب على الإطلاق، فالمستبدّ لا يعرف لغة التنازل، ولا يقبل التفاوض على بعضٍ من سلطاته. وإنّ غاية الإصرار على المسرحية الانتخابية لعام 2021 قهر كلّ إرادةٍ تطمح إلى التغيير، وتدفع باتجاه الحرية. وخلال القَسَم الدستوري، إثر فوزه الحتمي بولايةٍ رئاسيةٍ رابعة، وفي انفصامٍ ينطوي على كثيرٍ من التناقضِ والتشرذم، أشار الأسد إلى "أنّ رهان أعداء سورية في المرحلة الأولى من النزاع كان على خوف الناس من الإرهاب، وتحويل المواطن السوري إلى مرتزقٍ يبيع وطنه، غير أنّ الشعب أفشل هذه المخططات، وأثبت مرّةً أخرى وحدةَ معركةِ الدستور والوطن". والمفارقة المستفزّة هنا أنّ الخطاب السياسي، وطوال عقودٍ خمسة، أكد أهمية الدولة الديكتاتورية القوية في تعزيزِ الاستقرارِ الداخلي، وتقويضِ جميع أشكالِ الاحتجاج الاجتماعي، والاضطرابات، والهزات. 
اشتدّت القبضة الأمنية على المتظاهرين، بعدما تراجع رأس النظام عن موقفه، فوصف الأسد الثورة الطارئة بأنّها "فتنة"، و"مؤامرة"، و"فوضى" 
والمتابع للمشهد السوري منذ بدء الثورة السلمية، حتى عسكرتها، ثم تحوّلها المشؤوم إلى حربٍ بالوكالة، يستطيع ملاحظة مفارقةٍ عجيبة أخرى، تكشف طبيعة الأزمة المتفجّرة، وتداعياتها المتصاعدة. نعني بها حالة الازدواجية التي يعاني منها الخطاب السياسي المعلن، وما نُفّذ حقيقةً على الأرض. ففي أوّلِ كلمةٍ رسميةٍ له بعد اندلاع الاحتجاجات، اعترف بشار الأسد أمام البرلمان بأنّ الإصلاحَ تأخر "لكن سورية ستبدأ الآن". موضحاً "نريد أن نسرعَ ولا نتسرّع". وفي محاولةٍ لامتصاص طوفان الانتفاضة الشعبية، قال الأسد "إنّه ليس كلّ من خرج للمظاهرات متآمر، بل الغالبية خرجت بشكلٍ عفوي وحرّكتها أقلية متآمرة". مؤكّداً حرصه على عدم إراقة دماء السوريين، وتفهّم مطالبهم، للعمل على احتواء الأزمة، ورأب الصدع. وفي واقع الأمر، اشتدّت القبضة الأمنية على المتظاهرين، بعدما تراجع رأس النظام عن موقفه، فوصف الثورة الطارئة بأنّها "فتنة"، و"مؤامرة"، و"فوضى" نتيجة لتدخلٍ خارجي، بدون أيّ اعتبار لحقوق الشعب السوري، وإرادته، وحريته المغصوبة. كما انطلقت آليات الجيش لملاحقة الثوار، بدءاً من درعا، مروراً بتلكلخ على الحدود مع لبنان، وليس انتهاء بجسر الشغور على الحدود مع تركيا. وخلال العشرية السوداء، تتالت خطاباتُ الإصلاح واستراتيجية الكلام المُباح، فأُنجزت قفزاتٌ سلحفاتية أهمها: إصدار قانون جديد للأحزاب (مقيّد سلفاً بشروط قاسية عديدة). مراجعة قانون الطوارئ، وبعض أحكام الدستور (بدون تحديدٍ لمعنى هذه المراجعة). إنشاء مجلسٍ أعلى للإعلام، وتفعيل دور المرأة. القفزة الكبرى الوحيدة تجلّت في الارتفاع المستمر للمواد الأكثر أهميةً في حياة السوريين الجياع. على رأسها الخبز والأدوية والوقود. 
أزمة عامة في القيم والتوجهات، تمثلت في الجنوح إلى الخلاص الفردي، والعائلي، ثم الارتداد إلى حالات من التعصّب والانغلاق 
وأمام التحولات الصادمة بعد عام 2011، ارتأى النظامُ السوريّ أنّ السبيل الوحيد لقطع الطريق أمام المعارضة الوطنية هو اصطناع معارضةٍ في الداخل، وإفساح المجال لظاهرةٍ محدودةٍ من النقد، (سواء من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية أو خارجها)، قادرة على التحكّم بها، وضبطها، ورسم حدودها، وتوجهاتها. تقوم هذه اللعبة المكشوفة بأدوارٍ عديدة: فهي إشارة مباشرة إلى الخارج بإجراء تغييراتٍ في الداخل السوري، وهي بالآلية المرسومة، أيّ كيل المديح وانتقاد الجزئيات في آن معاً، ستكون وظيفتها غير مؤثرةٍ على الصعيدين، الاجتماعي والسياسي. على المقلب الآخر، يتمّ إرباك المعارضة السياسية الفاعلة، وعزلها عن التأثير بالواقع السوري. تقليم أظافرها، ثم إلباسها عباءة الطائفية في سبيل رفع النظام إلى رتبة القداسة، ومنع مساءلته ونقده. 
تؤكد مآلات الثورة السورية الراهنة أنّ الحياة، بعمومها، في حالة إنهاكٍ شديدة يُرثى لها. ممزقةٌ إثر صراعٍ داخلي تديره استراتيجية التناقضات. يخرج الأسد اليوم وقد أجرى عمليات تجميلٍ لوجهه، ليُدلي بقسمه الدستوري أمام شعبٍ عاجزٍ عن تأمين أبسط مستلزمات الحياة. والحال على هذه الدرجة من التأزم، لا بدّ أن يطرح السؤال الأهمّ في التراجيديا السورية: من أين جاء هذا الخراب كلّه؟ فيأتي الجواب تلقائياً، بعدما تؤكّد الوقائع الملموسة أن أصل المشكلة سياسيةٌ، أدّت إلى مجتمعٍ مستقيل. وأنّ طرق الحكم السياسي ونموذجه شكّلا أخلاق الناس، ووعيهم، وسلوكياتهم، فأنتجت أفراداً يائسين على جميع المستويات، محكومين بعقلية تأليه الحاكم المستبدّ، الذي تفنّن في اللعب على وتر الإشارات المتناقضة لكسب جولات الحرب المستعصية. وسط غيابٍ تام لحياةٍ برلمانيةٍ حقيقيةٍ، قائمةٍ على سلطاتٍ فعليةٍ مؤثرة، تشمل فيما تشمل حجب الثقة عن الحكومة السورية. أدّى ذلك كلّه إلى سيادة أزمةٍ عامةٍ في القيم والتوجهات، تمثلت في الجنوح إلى الخلاص الفردي، والعائلي، ثم الارتداد إلى حالاتٍ من التعصّب والانغلاق.