الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المهجرون داخل أسوار سوريا يتقصون معالم الحياة ومن هم خارج الحدود ينقبون عن وطن

المهجرون داخل أسوار سوريا يتقصون معالم الحياة ومن هم خارج الحدود ينقبون عن وطن

20.07.2020
حسام محمد



القدس العربي
الاحد 19/7/2020
 تعرض المجتمع السوري خلال الحرب المستمرة في البلاد إلى هزات عنيفة طالت كافة مناحي الحياة، فعلاوة عن انقسام الشعب إلى فئتين “داخل وخارج الوطن” فئة تتقصى معالم حياة طبيعية لم تعد موجودة وأخرى تنقب بين الحدود بحثا عن وطن.
كما تفرق الشعب السوري ضائعا بين تحزبات لها ما لها من آثار على المستقبل المجهول أصلاً، من مؤيد لهذا الطرف أو ذاك، وبين مراوح في المكان وكأن الزمن لديه توقف في ربيع 2011 فيما أجهزت الحرب على عادات وتقاليد، كان يتغنى بها الإنسان السوري، ليبقى التعاضد بين من هم خارج الحدود ومن هم بداخلها، كعنوان لآمال لم تنقطع رغم شدة الأزمات.
لعل صمود السوريين لليوم يعود لتكاتف مواطني الخارج والداخل، إذ يرى رامي السيد، وهو من نشطاء الثورة، وأحد مهجريها نحو الشمال السوري، أن كل عائلة داخل أسوار الوطن، تنتظر الإسناد بشكل دوري من الذين هم خارج أسواره للبقاء على قيد الحياة، حتى نال السوريون المهجرون خارج الحدود لقب “المنقذ”.
السيد يقول لـ “القدس العربي”: “لكن المنقذ استُنفدت طاقته بسبب الحرب الطويلة، ومع تراكم الهموم العائلية بدأت العلاقات الاجتماعية تتضاءل، وتتحجم بفعل مصاعب الحياة التي تتضاعف بدورها مع مرور الزمن، كما أن السوري المهجر أو ابن المناطق المحررة يشعر بتخلي الجميع عنه، وأن بعض من هم خارج الحدود صعدوا على حساب لقمة عيشه ومستقبل أولاده، فجفت منابر التواصل وبدت العزلة الاجتماعية سمة حاضرة بقوة.
في حين أن اللاجئ السوري في هذه الدولة أو تلك، بات يعيش ضمن مجتمعات فيها من العادات والقوانين المختلفة جذريا عن الواقع السوري، إضافة إلى الوضع النفسي الذي يعيشه اللاجئ السوري بين ضياع الهوية في المجتمعات الغربية والحياة الشرقية.
زلزال اجتماعي
انقسم الشارع السوري إلى ثلاثة أقسام: موالي – معارض – محايد، وأثر هذا الانقسام على العلاقات الاجتماعية في المجتمع، ومع تحول الحراك إلى صراع مسلح وعنف ارتفعت حدة الانقسامات وانعكست سلباً على المجتمع السوري وأصبح له تأثيرات سلبية زادت سوءاً مع دخول العامل الطائفي في هذا الصراع.
كما لعب اللجوء السوري وفق ما قاله مدير مؤسسة “أنا إنسان” مالك أبو الخير لـ “القدس العربي” لملايين العائلات السورية وتشتتها دورا مهماً وسلبياً في التأثير على العلاقات الاجتماعية، وخاصة مع تشتت العائلات وانقسام العائلة الواحدة بين عدة دول.
حيث أصبح لعامل اللجوء الدور الرئيسي في تحديد هوية التعامل بين العائلات حيث انقطعت الكثير من العلاقات بين العائلات نتيجة اختلافها السياسي، أو نتيجة اللجوء وبعد المسافات بين أفراد العائلة الواحدة، فمثلاً نشاهد الأب داخل سوريا فيما الأبناء يتوزعون في تركيا ولبنان ودول أوروبا، وأصبح الإنترنت السبيل الوحيد للتواصل.
كما أن الثورة كشفت، وفق ما يراه الباحث عبد الرحمن عبارة، عدداً ليس بالقليل من الأمراض المجتمعية للشعب السوري كالمناطقية على سبيل المثال لا الحصر، كما أفرزت سنوات الثورة مشاكل اجتماعية لم تكن بهذا الحجم سابقا، مثل مشكلة التفكك الأسري، خصوصا ضمن العوائل التي لجأت إلى الدول الأوروبية والغربية عموما.
كما دفعت بشرائح من المجتمع إلى تغيير جذري في سلوكياتها وعاداتها الاجتماعية جراء عوامل الهجرة واللجوء والنزوح، مثل عادات الخطبة والزواج، والمفارقة أن التغييرات الجوهرية على عادات الخطبة والزواج لكثير من السوريين في الداخل والخارج لم تسر على المهور، وبقيت مشكلة ارتفاعها عائقا أمام كثير من الشباب المقبل على الزواج.
عبارة، يقول لـ “القدس العربي”: “على الرغم من الانزياح السكاني الشديد، والمتغيرات الاجتماعية والضغوط المعيشية والنفسية، إلا أن الأسرة السورية بقيت متمسكة بعاداتها في الأعياد والمناسبات الاجتماعية، ولو بحدودها الدنيا.
كما سهلت وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة الكثير من المصاعب في تواصل واتصال الأفراد والعوائل ببعضها البعض.
من ناحية أخرى، فإن تسليط الضوء على تلك المشكلات والمتغيرات لا ينتقص من الصورة الكليّة للمجتمع السوري، فهو من حيث المبدأ ليس مثالياً فضلاً عن أن يكون مجتمعاً ملائكياً، شأنه بذلك شأن كل المجتمعات العربية، وغير العربية.
فالشعب السوري هو واحد من هذه الشعوب ولم يخرج أبداً عن سيرورة الطبيعة البشرية، فالحرب فعلت فعلها فيه كما فعلت مع بقية الشعوب، أقول هذا حتى لا نلوم أنفسنا كثيراً”.
ووفقا لآلة التغير الاجتماعي التي تنطبق على كافة شعوب الأرض منذ بداية البشرية، فإن آثار الحرب الطويلة، أو حالة الحرب المستمرة هي أهم عامل تغير نمط الحياة بشكل كامل، والذي يعتمد بطريقة كبيرة على العقلية الفردية والجمعية.
بالنسبة للفروقات الحاصلة بين سوريي الداخل والخارج بفعل الحرب، فترى الإعلامية السورية سما مسعود، أنها كانت موجودة سابقاً، لكن بنسبة قليلة جداً، بين السوريين المغتربين للعمل أو الدراسة فرادى أو مع عائلاتهم وبين أقاربهم في الداخل، زادت هذه النسبة اليوم بفعل زيادة الطرفين، من هم في الداخل ومن هم في الخارج.
وتقول مسعود لـ “القدس العربي”: أولاً أصبح لدينا اختلاف ثقافي بين سوريي الداخل والخارج، وتفاوت تعليمي، ويمكننا القول تفاوت في مستوى النضج الحضاري، فالأخوة الذين جمعتهم كل الظروف سابقاً تفرقهم ظروف أخرى اليوم.
على المستوى الاجتماعي، سوريو الداخل ينظرون لمن هم في الخارج على أنهم في النعيم، بينما بقوا هم في الجحيم، على الرغم من اختيار كل شخص لمستقبله ومصيره.
إلاّ أن الشعور بالمظلومية نمى لدى البعض فكرة “الأحقية” بما يعني أن البعض يقول؛ هم خرجوا ونجوا ونحن بقينا في المحنة، ما يعني انتفاء جميع الحقوق عن من نجا، وأحقيتي بهذه الحقوق بما أنني الوحيد الذي أدفع فاتورة عملهم أو نجاتهم”.
بالتالي نرى الكثير، استحلوا عقارات وبيوت وممتلكات من غادر سوريا، ما تسبب في حالة احتقان اجتماعي بالنسبة للمغادرين، وشعورهم بالمظلومية سيما أولئك الذين لم يصلوا أوروبا حيث يتمتع اللاجئ بالحقوق الإنسانية الدنيا، وتعتبر مسعود أن هذه الخطوة قد تتحول في السنوات المقبلة إلى هوة كبيرة بين سوريي الداخل والخارج مبنية في أساسها على الحقوق.
انسلاخ أم اندماج؟
الحرب ساهمت في تقسيم سوريا ككل وليس السوريين فقط، اليوم تحت مناطق نفوذ روسية وأمريكية وإيرانية وتركية، وهذا عامل مهم قد يساهم في تقسيم سوريا مستقبلاً بشكل فعلي.
في المقابل فإن السوريين تم تقسيهم من وجهة نظر مالك أبو الخير، مدير مؤسسة “أنا إنسان” اجتماعياً ونفسياً وسياسياً، بل أن قسما منهم انسلخ عن هويته السورية بالكامل، هناك قسم ذهب نحو دول اللجوء الأوروبية واندمج فيها، ولن يعود حتى لو تم إيجاد حل سياسي، وهناك قسم اندمج في دول اللجوء مثل تركيا وحصل على جنسيتها وأصبح فاعلاً في مجتمعها.
وبين السوريين فالانقسام كبير والشرخ أكبر، هناك انقسام وحقد طائفي واضح وخصوصاً بين الأقلية التابعة للنظام والغالبية المعارضة له.
وهناك شرخ أكبر ضمن العائلات التي تعرضت للنزوح وهذا جانب يحتاج إلى مساحة أكبر للإجابة، حيث نتحدث هنا عن عائلات فقدت الأم أو الأب، ونزحت لمكان آخر ضمن سوريا وبدأت حياة جديدة بواقع اقتصادي قاسي أجبر الكثير من العائلات بالاتجاه نحو الضياع وتباعد أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم البعض.
جوانب مرعبة
ملايين السوريين فقدوا وفق ما قاله أبو الخير لـ “القدس العربي” أرزاقهم وهجروا من بيوتهم واليوم يسكنها أشخاص آخرون، كما في ريف حمص وريف دمشق، هناك عائلات كانت غنية واليوم تعيش في فقر في مخيمات اللجوء بعد أن تمت سرقة أرزاقهم وأملاكهم وأراضيهم.
في حين، أن النظام السوري كان المشرف على عملية تغيير ديموغرافي كبيرة ساهمت في خسارة الكثير من السوريين لأرزاقهم، وأكبر مثال في الشمال السوري حيث بإمكان الجميع سماع آلاف القصص عن عائلات من دمشق وحلب ودمشق وحمص وغيرها فقدت كل أملاكها وخرجت للشمال لتعيش حياة في غاية من البؤس.
فيما يعتقد الباحث عبد الرحمن عبارة، أن أبرز وأخطر مشاكل المجتمع السوري المستجدة هو نشوء جيل لا يملك من روابط نفسية وفكرية واجتماعية عن سوريا إلا ما يسرده الأهل عنها من ذكريات وحكايات وآلام وآمال، والخشية أن تتضاءل تلك الروابط وتذوب تدريجيا مع ضعف اللغة وإهمالها وبُعد المكان والاندماج مع شعوب دول المهجر واللجوء.
ما الذي تغير؟
الخلاف الحقيقي بين سوريي الداخل والخارج هو بين المعارضين لنظام الحكم وغالبيتهم أصبحوا خارج البلاد نتيجة التهجير القسري، والموجودين في الداخل الذين ما زالوا مؤيدين للنظام السوري، وهنا الخلاف كبير ان لم نقل إنه يحمل صفة الدم والحقد.
وينطبق هذا الخلاف من وجهة نظر مالك أبو الخير، أيضا على الموجودين داخل سوريا بين المناطق الثلاث (التابعة للمعارضة – التابعة للنظام – التابعة للسيطرة الكردية) حيث نتحدث هنا عن ثلاثة نماذج متعادية ومتحاربة بين بعضها البعض، ووصل حجم الانقسام فيها إلى أعلى الدرجات وأصبح من الصعب في المرحلة الحالية العيش مع بضعهم من جديد كما قبل 2011. ويبدو ذلك واضحاً بشكل جلي في وسائل التواصل الاجتماعي من خلال متابعة كمية الحقد والكره عبر المنشورات والتعليقات بين هذه الأطراف الثلاثة.
هذه قضية شائكة جدا ومن الصعب الإجابة عليها بشكل سريع ومختصر، لكن من المؤكد أن العائلات السورية قد تعرضت لهزات عنيفة ساهمت في قلب كثير من الموازين، مثلاً: فقدان الذكور نتيجة المعارك قلب ميزان الكثير من العائلات وحول دور المرأة السورية من ربة منزل إلى عامل يؤمن مستقبل عائلته حيث ارتفع منسوب عمالة المرأة في دول اللجوء (لبنان – تركيا – الأردن) وشهد البعض منها قصص نجاح، ومنها قصص بؤس وعذاب وخاصة الموجودين في المخيمات.
في المقابل وفي دول اللجوء الأوروبية شهدنا حالات طلاق كثيرة وتشتت الكثير من العائلات السورية وانقسامها، من دون نسيان التشتت الكبير لأبناء المنزل الواحد، حيث نجد الأب والأم داخل سورية فيما الأبناء متوزعين في عدة دول ومنهم من لا يستطيعون العودة إلى سوريا، أو الزواج في إحدى الدول الأوروبية في حين ما زال يعاني من سنوات من أجل لم شمل عائلته الموجود في إحدى دول اللجوء الموجودة حول سوريا.
ومما لاشك فيه أن بنية العائلة السورية تغيرت، وتغير معها الكثير من القناعات وما كان محرماً سابقاً عند البعض اليوم أصبح أمراً طبيعياً نتيجة إقامته في دول خارج محيطه الأصلي.
فعل فاعل!
الخبير في الشؤون الدولية محمد العطار، يرى أن تمزيق المجتمع السوري إلى أعراق وطوائف وملل وداخل وخارج، جرى بفعل وتخطيط محكم من قبل القوى الكبرى المعلنة والخفية منها، مما أدى إلى تشتت عامة السوريين في بقاع الأرض، وانتشرت معهم خلفياتهم وتناقضاتهم، حتى أصبحت “الوطنية” وطنيات، تقاس حسب التوجه وحجم التناقضات أو التوافقات، بينما أُكره الكثير من السوريين في الداخل على إلباس وطنيتهم بشخص بشار الأسد.
كان هذا التباين في الفكر وإسقاطاته على الوطنية من السوريين عامة والفيسبوكيين خصوصاً، أما من اعتبروا أنفسهم النُخب السورية فكانوا هم أشد مُصابات السوريين في محنتحم الرهيبة، حيث اعتبروا أنفسهم ممثلين للثورة التي لا يعرفها أغلبهم، ولم يعشها إلا قليل منهم، وفرضوا أنفسهم عليها وعلينا بدون اختيار من أحد، إلا الدول التي فرضتهم، فصاروا ممثلو تلك الدول في مؤسسات الثورة، وعونهم علينا. ولم يكتف البعض بهذا الدور الظالم للسوريين ولثورتهم، بل تمادوا في ظلمهم وطغيانهم إلى حد تشكيل منصّات ناطقة باسم تلك الدول واعتبروها جزءاً من جسم الثورة، فأصبحت وطنيتهم لا تكتفي بالتأثر بمصالح تلك الدول، بل تعدت ذلك لتتطابق وطنيتهم مع أهداف تلك الدول في وطننا الجريح.
العطار يقول لـ “القدس العربي”: وطنية كلٌ منّا تنطلق من مكان ولادته وانتمائه الإثني الصغير إلى مكان تواجده وإقامته رابطاً بين ركام أفكاره الأولى ومصالح الدولة التي يعيش فيها، ذلك بتكليف من جهاتها الرسمية، أو تبرعاً من عند نفسه نتيجة سوء التربية السياسية التي تلقيناها خلال حياتنا في ظل حكم الأسد الأب والإبن، حيث مصادرة الحريات والتبعية العمياء للسياسة المعلنة من الدولة، وإلا تعرض صاحب الفكر المعارض لكل نوع من أنواع الاضطهاد الفكري والمعيشي ليصل إلى الترهيب والاعتقال وحتى الفناء في الزنازين والمنفردات في معتقلات قليلاً ما ذكر شبيهاً لها.
ما المطلوب؟
يقول الباحث عبد الرحمن عبارة: مواجهة المتغيرات والمشكلات المستجدة على المجتمع السوري لم تلق الاهتمام والعناية المطلوبة من النخب والمختصين ومنظمات المجتمع المدني السورية.
وأرجع  المصدر، ذلك لأسباب موضوعية، منها: حجم الكارثة وتشعبها، وضعف الإمكانيات، والتباعد الجغرافي، وحداثة المنظمات السورية وعدم تمكنها علميا وفنيا، والمطلوب جهود مكثفة على مستوى الدول والمنظمات الدولية، لوضع برامج وخطط بعيدة المدى قابلة للتنفيذ والقياس.