الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المقتلة: الإنسانيّة والبربريّة على كوكب واحد

المقتلة: الإنسانيّة والبربريّة على كوكب واحد

19.12.2016
عمر قدور


الحياة
الاحد 18/12/2016
بينما كانت الاحتفالات تنشط في طهران والضاحية الجنوبية واللاذقية وحلب نفسها، كانت التظاهرات تنطلق في العديد من المدن الأوروبية استنكاراً لمذابح حلب. نستطيع القول إن من أشعلوا الشموع، ومن هتفوا أو رفعوا لافتات التنديد، هم أكثر ممن غنى ورقص، وهم أكثر قيمة لأن غالبية منهم كانت مدفوعة بإخلاص إنساني، بخلاف بربرية المنتصرين هنا وهناك.
هل أوقفت التظاهرات، القليلة على أية حال، المذبحة؟ وهل ستوقف المذابح المقبلة؟ وهل نسبة الغربيين الذين تظاهروا معتبرة قياساً بنسبتهم في مناسبات أخرى "أقل أهمية"؟ ماذا عن الشعوب العربية التي لم تتحرك خلافاً لسياسات حكوماتها؟ وماذا عنا، نحن السوريين، وهل فعلنا أفضل ما يمكن فعله؟
قد تقفز هذه الأسئلة السهلة وما يشابهها إلى الأذهان فوراً، لا يقل عنها استسهالاً الجزم بانحدار العالم إلى حضيض غير مسبوق، أو القول تخفيفاً أن العالم كان دائماً على هذه الشاكلة من البربرية. لدعم تلك الأقوال، توجد مذابح كافية على مر العصور، وأهمها في القرن الماضي الذي يُصنّف بأنه الأكثر دموية من حيث عدد الضحايا، وأيضاً من حيث الاستحواذ الحثيث على أسلحة الدمار.
ونحن في خضم المذبحة، وهي مستمرة قبل حلب وبعدها، يحق لنا انتقاد العالم، يحق لنا رثاء الإنسانية. القول بأن الأخيرة تعبير عما لم يوجد أصلاً لا يمنح عزاء أفضل، هو مصمم لتعزيز اليأس تحت ادعاء الحكمة، ولتعزيز سلطة القوة تحت وهم امتلاكها يوماً، والانضمام إلى ناديها على حساب ضعفاء آخرين. لذا، ما يحمّل انتقاد العالم قيمة يفتقدها الآن هو عدم الوقوع في قدرية سوداء، لأنها تعني في ما تعنيه الهباء المطلق إنسانياً، وتقود في ما تقود إلى العدمية السياسية، يمثلها إرهاب لا يبتغي أكثر من التعبير عن مظلومية ما.
لا بأس في رؤية الواقع من زاوية أخرى، لقد خرجنا كسوريين إلى العالم فجأة، لم نكن طيلة خمسة عقود معروفين كمجموعة بشرية سوى من محيطنا الإقليمي، وحال غالبيته ليست أفضل من حالنا. تحت ستار التعتيم ذاك، كانت تنتعش مختلف أنواع التنميط بين السوريين أنفسهم، وبينهم وبين جيرانهم أيضاً. تنميطنا غربياً لم يكن خارج السياق، سياق عدم المعرفة، وسياق العداء الموروث بين ضفتي العالم القديم.
ثمة عتب محق على شعوب الغرب، إذا انطلق من واقع التلازم المفترض بين الحرية والإنسانية، وهو يقتضي مراجعة ما ادعيناه طويلاً من الإنسانية. الإنسانية تكتسب شرطها هنا من إطلاقها، لا من تلك الإنسانية العصبوية، دينياً أو قومياً أو مذهبياً. هذه الإنسانية عبّر عنها بعض الغرب في التظاهرات التي انطلقت في عديد من المدن الأوروبية من أجل حلب، في الحرب على غزة أيضاً حدث أمر مشابه. في الحرب على نظام صدام، كانت التظاهرات أكبر عدداً وأوسع انتشاراً، لأنها التبست بالسياسة وباستعداد حكومات الغرب للحرب، أي لأنها صارت شأناً داخلياً، وأيضاً لأن العالم كان قد ودع للتو حرباً عالمية باردة ويتوق إلى الاستراحة من الحروب كافة.
اليوم، بينما يتقدم اليمين في عموم الغرب، سيكون من الواجب الأخلاقي تثمين إنسانية الذين تظاهروا من أجل حلب في مدنه، على قلتهم. في وجه بربرية يُراد اعتبارها شأناً عادياً، هؤلاء في طليعة الحلفاء، لأنهم ببساطة أحرار في مجتمعات حرة. قد نقول كلاماً آخر في نقد الأنظمة الغربية نفسها، وقد نقول كلاماً أيضاً في فصلٍ تقيمه النخبة السياسية بين مكتسباتها الداخلية وما ترى الشرق جديراً به. لكن أولئك الغربيين الذين تظاهروا، وأعداداً أكبر من الذين احتضنوا اللاجئين، عبر عقود والآن، ليسوا ملائكة ولا قديسين، ببساطة هم الذين لولاهم لكان اليأس أعمّ، ولكانت العدمية تجد مبررات أقوى لتدمير الكوكب.
ما يُقال اليوم عن تراجع المستوى الأخلاقي فيه أحكام يجدر أن توضع تحت النقد، فالعالم لم يكن أفضل حالاً عندما هُجّر الفلسطينيون، القضية الفلسطينية تقدمت عبر عقود في الغرب، وصورة إسرائيل تراجعت، بل تدهورت في بعض الأوساط. القضية السورية نالت من الاهتمام ما لم تنله مذابح رواندا وبوروندي، وصورة بشار ونظامه تفوق بشاعة تلك الصورة التي كانت لنظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا.
بالتأكيد هناك هوة بين المعرفة والفاعلية، فضلاً عن نقص في الأولى، هذا ربما يحتاج إلى وقت وإلى تراكم في الخبرات، ففي ظل الانقسامات السياسية والثقافية، والتلويح بصراع الحضارات، لن يأتي التضامن سريعاً على قدر الآمال.
في السنوات الخمس المقبلة، على الأقل، هناك معارك ستُخاض في الغرب ضد اليمين العنصري الحاكم. كونها لن تُخاض لأجلنا، فذلك لا يعني أننا لن نتأثر بنتائجها، وكون بعض الذين سيخوضونها لا يكنّ مشاعر إيجابية تجاهنا، فهذا لا يعني النظر إليها بعدم اكتراث. بالأحرى، من أجل جميع معاركنا، نحن معنيون بما يحدث في منطقتنا وفي الغرب، ومن دون الأخير وتدخّله المنشود لن تُحل قضايا المنطقة، وسيُسحق فيها الجميع لمصلحة من يملكون القوة أو من يستقوون بقوى خارجية بديلة عن الغرب.
بخلاف ما يُشاع، العتب على العروبة أو على الإسلام، بسبب التخاذل عن نصرة قضايانا، هو عتب الضعفاء على الضعفاء ثانياً، وقبل ذلك، عتب مبني على عصبوية لم يحدث أن أدت إلى أفق إنساني مطلوب أكثر من أي وقت مضى. لا العتب ولا التبرؤ لهما محل من الواقع، طالما تقاسمت هذه الكتلة انعدام الفاعلية نفسه، وروح القبيلة نفسه، والانغلاق النفسي والثقافي ذاته. العتب على الغرب من هذا المنطلق هو النفاق، لا ما يُروّج حتى عن نفاق الغربيين وهم يتضامنون من أجل قضايانا.
بالتوازي مع مقتلتنا، كانت البربرية المشرقية هي الصاعدة، البربرية الروسية والإيرانية مدعومتين بالصين، مع تواطؤ أميركي على تهميش الغرب التقليدي، تواطؤ لا نعرف مدى تأثيره في إمكان انهيار الاتحاد الأوروبي ككل. نحن وأوروبا أكبر المتضررين من البربرية الصاعدة، ربما يكون هذا امتحان "العالم القديم" بشطريه، حيث لا تتوقف مسؤولية كل جهة عند حدودها كما يريد متطرفون على الجانبين.