الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المعارضة وإشكالية الوطنية السورية

المعارضة وإشكالية الوطنية السورية

28.11.2015
ماهر مسعود



الحياة
الخميس 26/11/2015
أصبح بديهياً في خطاب المعارضة وصف النظام السوري بأنه لا وطني، وذلك بعدما جعل سورية مسرحاً للاحتلالات المتنوعة، إن مباشرة عبر استدعائه الاحتلال الايراني ثم الروسي، أو في شكل غير مباشر عبر استدعائه حليفه الموضوعي "تنظيم الدولة الإسلامية - داعش"، وهو التنظيم الذي يتساوى مع النظام في الوضع الانتدابي على الشعب، لكنه يعاكسه في الاتجاه والاستراتيجية.
ولكن إذا كان النظام بالفعل لا وطنياً، فماذا نقول عن المعارضة؟ وما الذي فعلته لما يُفترض أنه الوطن؟
بداية ننوه بأننا لا نجري بأية حال مساواة أخلاقية أو سياسية بين النظام والمعارضة، ولا نحمّل مسؤولية متساوية للطرفين في خراب سورية، تبعاً لما في تلك المساواة وقائليها من خلل فكري ووجداني وواقعي. فالمسؤول الأول النظام. وتبعاً لكون هذا الخطاب التسووي خطاباً يناسب النظام وأعوانه، ويناسب الجزء الأكبر من "المعارضة المفيدة" للنظام أو ما يسمى بمصطلحاته "المعارضة الشريفة".
نريد هنا نقاش استبطان السوريين عامة، والمعارضة بخاصة لسورية كوطن، أو سورية الوطن، علَّنا نفسر فشل المعارضة في بناء جسم سياسي تمثيلي للشعب السوري بعد أربع سنوات ونصف السنة على بداية الثورة. وهو الفشل المدويّ على جميع المستويات، والذي ما زال عصياً على فهم المراقب الخارجي أو الداخلي، ويساهم في شكل فعال في بقاء الثورة بلا أفق سياسي، وبلا طرح أي بديل حقيقي مقنع وقوي عن الأسد.
هناك أسباب وجيهة عدة لكن غير كافية لفشل المعارضة، مما بات يعرفه الجميع، كغياب الحياة السياسية لأربعين عاماً متوالية وعزوف الشباب عن السياسة والتــحزُّب والايـــديـــولوجيا، أو انـــجرار المعارضة لخطاب الشارع واسترضائه من دون وضع استراتيجيات سياسية مستقلة ومرشدة في آن، أو عدم جدية المجتمع الدولي في تبني جسم سياسي معارض وتقويته، أو انتشار الفردية والمنافسة بين الأقطاب المعارضة، أو اختلاف الأجندات وتضاربها وتبعية أصحابها للدول الممولة بأجنداتها المتنوعة الخ...
إضافة الى تلك الأسباب المهمة، نعتقد بوجود خلل أعمق واشكالية كبرى في علاقة السوريين ببلدهم، أو في استبطانهم لسورية كوطن، ليس في فهمهم أو ادراكهم الواعي فحسب، بل في "لا شعورهم السياسي" تجاه الوطن والوطنية السورية.
يقوم اللاشعور السياسي للسوريين على تصور أخلاقي للوطن، حيث تتربع الثنائيات الضدية تقديساً وتدنيساً، فإما خائن عميل، أو وطني شريف، إما قومي عروبي، أو تقسيمي وطائفي، إما مقاوم وممانع، أو عميل للإمبريالية والصهيونية، إما مع حق وخير الثورة، أو مع شر وظلم النظام... والمشكلة في تلك الثنائيات أنها متناقضة شكلاً لكنها متشابهة في العمق، وغير منتجة في المحصلة. فتصوُّر الوطن على أنه مكان للشرفاء مثلاً، يجعل الشرفاء بنظر الأسد ومواليه، هم أنفسهم الخونة بنظر معارضيه، والعكس بالعكس، والحقيقة أن الشيطنة والتخوين التي سهلت على أتباع النظام القتل والتصفية والمجازر، سهلت الشيطنة والتخوين والقتل أيضاً لدى المعارضة. وفي المحصلة، فالشيطنة ليست فعل اقصاء فحسب، بل نتيجة لإحساس عميق بأن الوطن لنا وأنتم غرباء، وأنه لا يمكننا التشارك في وطن واحد إلا ضمن علاقة استعباد محكومة بأخلاق العبيد.
التصوُّر الأخلاقي للوطن يجعل التمسك بـ "المبادئ" المجردة، أهم من واقع البلد والناس العيانيين فيه، ولذلك رأينا منذ البداية تمسك "هيئة التنسيق" مثلاً بمبادئها و "لاءاتها الثلاث" ضداً على ما يجري في الواقع العياني، وحتى بانفصال عن مجرياته. وهذا ما تكرر مع الاسلاميين والعلمانيين والقوميين واليسار وكتائب "الجيش الحر"، وجميع أطياف المعارضة بكل تلاوينها وخلافاتها، التي أصبحت خلافاتٍ على سورية ما بعد الأسد، على رغم أن الأسد كان لا يزال هو السلطة وهو الواقع، أي ان الخلاف كان على كعكة ما زالت في الفرن... ثم احترقت، وعلى تصورات ثابتة عن سورية لا تشبه واقعها. والمشكلة في تلك التصورات أنها لم تكن سياسية، أي محمولة على استراتيجيات بعيدة وقريبة ومتغيرة وقابلة للتفاوض، بل أخلاقية محمولة على ثوابت أقرب لثوابت النظام الفارغة وشعاراته الجوفاء التي لم يكن الهدف منها يوماً سوى المزاودة على الشعب لتسهيل تخوين الجميع، والمعارضة بخاصة، بينما يُجري هو من تحت الطاولة صفقاته على سورية وأرضها وشعبها.
على العكس مما هو سائد سورياً من "أخلقة" وتقديس زائف للوطن، وهو بالمناسبة ثقافة أسدية كانت بمثابة لا شعور سياسي للمعارضة، فوُضع الوطن ضمن حيز السياسة والتعاقد السياسي.
فهذا ما يجعل الوطن مهماً للناس ويجعلهم يستبطنون الشراكة الحقيقية فيه، ويصنع منهم مواطنين أحراراً في وطن سيّد، وليس الخُطب الوطنية البليغة والشعارات الأخلاقية الجوفاء، التي تبجل الوطن من دون أن يشعر أحد بأنه وطنه بالفعل وبأنه مواطن حرُّ فوق أرضه.
إن فصل الوطن عن الأخلاق وصراع التصورات الأخلاقية، أي الاحتكار والامتياز والشعور بالأحقية والأفضلية في الوجود وممارسة السياسة، هو بالمحصلة فعل أخلاقي وعمل سياسي. ولذلك فإن قلب الأخلاق السياسية الموروثة عن نظام الأسد والمزروعة في جسد المعارضة، وهي بالمجمل أخلاق عبيد وسياسة استعباد، واستبدالها بسياسة تحررية منفتحة على الآخرين، المختلفين حتماً، وعلى الشعب السوري بالمجمل، هو فعل ثوري، بل من أهم الأعمال الثورية المتجانسة مع روح الثورة وأهدافها الأساسية في الحرية والكرامة.