الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المعارضة السورية ضيّعت الأمانة

المعارضة السورية ضيّعت الأمانة

30.05.2016
مرح البقاعي


الحياة
الاحد 29/5/2016
 "أخشى أن ملايين السوريين الذين نجوا من دوامة الموت في الداخل ستنتهي بهم رحلة العمر في دول الشتات من دون أن يغمضوا أعينهم للمرة الأخيرة على مشهد الصباح في سورية". كان هذا منشوراً وضعته على صفحتي العامة على موقع التواصل الاجتماعي، "فايسبوك" الذي اندلعت على صفحاته الالكترونية أولى ثورات الربيع العربي في تونس، لتمتد نيرانها الافتراضية في هشيم الأنظمة المهترئة وتسقط رئيسين متواليين في مصر أحدهما ديكتاتور فاسد وثانيهما منتخَب إسلاموي.
كان "فايسبوك" القاسم المشترك الأعظم لتواصل النشطاء السوريين منذ اليوم الأول لبدء التظاهرات الصغيرة والمحدودة في دمشق ودرعا والتي تحولت خلال أشهر قليلة إلى حركة عارمة واجهها النظام السوري بالنار والحديد منذ البدايات، وكنتُ وما زلت أرى في هذا المنبر الوسيلة الأجدى للتواصل بهدف دعم الثورة وثوارها أينما وجدوا، حتى تحوّل إلى خبزي الثوري اليومي وأنا على مسافة قارتين وبحر ومحيط من الأرض الأم. وللمرة الأولى، إثر آلاف من المنشورات التي وضعتُها عن الثورة السورية وشجونها، يتلقى المنشور الذي افتتحت به هذا المقال ذاك الكم من الاتهام للمعارضة السورية، بشقّيها العسكري والسياسي، وتحميلها المسؤولية الأكبر عما آلت إليه حال الثورة وثوارها في آن.
فهل المعارضة هي أحد الأطراف المسؤولة عن اضطرام أوار العنف والدمار والموت الذي يرزح السوريون تحت غلوائه منذ نيف وخمس سنوات؟ وهل كانت تلك المعارضة الطارئة عاملاً مؤثراً في أصحاب القرار الدولي، أو محاوراً استراتيجياً مقنعاً باسم الثورة، أم أنها مجرد بيادق على رقعة شطرنج المصالح الإقليمية والدولية يحرّكها الداعم أو الممول أو من يسمي نفسه "صديقاً" أيّما شاءت مراميه في هذا البلد الجريح؟
للإجابة بموضوعية ونزاهة سياسية عن هذه الأسئلة، لا بد من العودة إلى أول تشكيل معارض التأم في العام الأول من الثورة. ففي خريف العام 2011 بدأت وجوه من المثقفين والمغتربين والمبعدين السوريين المنتشرين في العالم، إلى جانب مجموعة سورية وحيدة منظمة سياسياً هي جماعة "الإخوان المسلمين"، بدأت بجمع عقد "المعارضين" في هيئة ما أطلق عليه المجلس الوطني السوري الذي كنت أحد مؤسسيه بالشراكة مع الشهيد السوري الكردي مشعل التمّو. تأسس المجلس ولكن على أرضية من فراغ، وكان مجرد بالون صوتي كبير لا قواعد مؤسسية له ولا نظم سياسية يستند إليها، بل مفاضلة بين أطرافه على قاعدة من محاصصات مقيتة انبرت لأحزاب شبه وهمية تجمعت في عجالة لتجد لها كرسياً- ولو بثلاث أرجل- في المجلس العتيد.
وغاب تقديم الخبرة والأقدمية السياسية على حساب تقدّم العلاقات والمصالح البينية. وسادت منذ البدايات سلبية مَرَضية بين أعضائه، وانعدمت الثقة بينهم في ظل غياب الشفافية المالية والإدارية، وحظر كامل لأي نوع من المساءلة والمحاسبة واستبعاد قصدي لكل من طالب بهما بواسطة "الترشيق"، وهي بدعة أتى بها المكتب القانوني لاستبعاد كل من علا صوته بإصلاح النخور في المجلس قبيل تهاويه وانضوائه على عجل في عباءة هيئة جديدة موسعة رأت النور في الدوحة، وحملت اسم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في نهايات العام 2012، حاملاً معه فيروساته السياسية ناضجة إلى الجسم الجديد.
اتضحت لي سوداوية المشهد السوري المعارض منذ الاجتماع الأول الموسع للمجلس في تونس، وأعلنت استقالتي في اجتماعه الثاني! ومنذ العام 2011، حتى تأسيس أحدث مجموعة للمعارضة تضم للمرة الأولى ممثلين عن الفصائل المقاتلة وهي الهيئة العليا للمفاوضات في نهاية 2015 بالعاصمة الرياض، والأمراض التي اعترت المعارضة على حالها؛ بل تضخّمت وانتفخت بحيث استحال التحايل والتدافع للوصول إلى المناصب والتمتع بنفوذها ومكرّماتها إلى صراع شرس وكيدي في أروقتها السياسية، وإلى مواجهات دموية بين فصائلها المسلحة على الجبهات العسكرية تكاد تودي بِنَا جميعاً إلى حافات الهاوية.
من نافلة القول ما للمال السياسي من دور في إفساد أصحاب النفوس الضعيفة من المستجدّين على المعارضة دون سابق تاريخ سياسي أو سجل نضالي وطني، ولا مؤهل معرفي أو علمي يكافئ موقعاً تشبثوا به أو منبراً اعتلوه في غفلة؛ ضعاف نفوس ظهروا في صفوفها عرضاً، وانتشروا كالفطور السامة بين منظماتها، وتعمّدوا دفع الأصلاء في عملية التغيير السياسي الشامل في سورية إلى الصفوف الخلفية، بل والتعتيم عليهم، ليتصّدروا وحدهم المشهد، ليس بهدف دعم العملية السياسية والتمثيل الديبلوماسي والإعلامي للثورة في العالم، بل بهدف حصاد الامتيازات على امتداد الفصول ومواسم وصنوف الغلال كافّة.
وأمست هيئات المعارضة في عهدهم- على اختلاف مسمّياتها- مغارة لنشل قرار الثورة ومالها، ووسيلة لنسج العلاقات على أرفع المستويات الحكومية الدولية وبين الشخصيات العالمية النافذة والمؤثرة التي لم يكن لها من خيار إلا لقاء من تقدّمه المعارضة ممثلاً لثورة يتيمة على موائد لئام.
فصل المقال يكمن في حجم البذخ السياسي والديبلوماسي اللذين حظيت بهما المعارضة السورية، وهما فرصتان ذهبيتان لم تحظَ بهما معارضة سياسية سابقاً. ولكن، للأسف الشديد، فشلت في إدارة رأس المال السياسي الذي منحتها إياه 143 دولة صديقة في العالم.
و "إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة"، صدق رسول الله.