الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المجتمع المدني في سورية… التطور والتحديات

المجتمع المدني في سورية… التطور والتحديات

12.11.2019
نائل جرجس



جيرون
الاثنين 11/11/2019
تعمد النظم الاستبدادية على إضعاف المجتمع المدني والسيطرة عليه، بما يضمن لها الاستمرار في حكمها وإلغاء أي شكل من أشكال معارضتها أو ممارسة الرقابة عليها. فلعدم تقوية المجتمع المدني ورسوخه في المنطقة بشكل عام، وسورية بشكل خاص، كبير الأثر في انعدام ترسيخ الديمقراطية والانزلاق في اقتتال أهلي وغياب السلام المستدام. ويضطلع المجتمع المدني بأدوارٍ عديدةٍ، منها الرقابة على حسن أداء عمل السلطات، وإدانة وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، والمساهمة في التنمية ونشر الوعي والفكر المدني. فوجود المجتمع المدني أساسي للتغلب على الانقسام الديني والطائفي في المشرق، ولتعزيز الانتماء إلى الدولة الوطنية وتعزيز ثقافة المواطنة، وبالتالي انحسار الانتماءات ما قبل الوطنية، كالقبيلة والطائفية والمذهبية والاثنية. وبهذا سيكون دور المجتمع المدني حاسمًا في رسم معالم الوجه الجديد لسورية.
نشوء المجتمع المدني السوري
 يعود ظهور المجتمع المدني في سورية إلى أوائل القرن التاسع عشر، عندما بدأ انهيار الإمبراطورية العثمانية ومعها نظام الخلافة الديني، لصالح تأسيس الدولة الوطنية القائمة على مفاهيم عصرية كمبادئ الديمقراطية والمساواة بين المواطنين. أسهمَ ذلك في تكوين مناخ وطني أدّى إلى ظهور بعض مكونات المجتمع المدني المعاصر. وقد كانت العروبة الأيديولوجيا المنافسة للإسلام، فانبثق عنها العديد من الجمعيات والأحزاب السياسية في سورية. وتأسّست أيضًا الأحزاب الشيوعية، والقومية السورية -مؤسسها أنطون سعادة – لتعزّز من انحسار التأثير الديني في المنطقة، ولتسهم في تأصيل الصفة المدنية في الدولة.
نالت سورية استقلالها عام 1946، على إثر جلاء القوات الفرنسية بعد انتداب استمر منذ عام 1920. بدت سورية بعد الاستقلال تتجه نحو التعددية والديمقراطية، في ظلّ مساهمة نشطة لأطياف المجتمع المدني فيها، وخاصة الأحزاب السياسية. فقد أدّى المناخ الوطني، القائم أساسًا على التحديث القانوني لسورية على حساب انحسار التأثير الديني، فضلًا عن التضامن بين السوريين في ظلّ كفاح مشترك ضد الاحتلال الفرنسي، إلى قيام نوع من الوحدة الوطنية بين سكانها. وقد تعزّز نشاط المجتمع المدني ضمن دولة وطنية جديدة، ولا سيّما في ظلّ تمتعه بحرّية مقبولة دامت قرابة عشرة أعوام، في ظلّ غياب الاستبداد السياسي وما وفّره ذلك من حرية ممارسة أنشطة مدنية. وحاولت الأحزاب الدينية، بشكل خاص “الإخوان المسلمين”، التأقلم مع الواقع الجديد، ولا سيما في ظلّ ترؤس هذه الجماعة من طرف المفكَر مصطفى السباعي الذي دخلَ معترك الحياة البرلمانية والسياسية وأبدى تقبلًا لقضايا الديمقراطية. وقد استغلّت المرأة السورية هذا المناخ للمطالبة بحقوقها، ما أدّى إلى إعطاء السوريات حق التصويت عام 1954، بينما لم تُمنح النساء السويسريات هذا الحق إلا في عام 1971.
الوحدة مع مصر ووصول البعث إلى السلطة: بداية مرحلة جمود المجتمع المدني  
لم يمضِ وقت طويل على هذه الديمقراطية الوليدة، القائمة أساسًا على مجتمع مدني ناشط، قبل أن تتضعضع؛ إذ أدّت تبعات الوحدة مع مصر عام 1958، تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة، إلى إضعاف المجتمع المدني. فلم يخضع هذا الأخير إلى القيود المفروضة وفق القانون المصري رقم 93 بخصوص الجمعيات فحسب، وإنما عانى أيضًا قمع أجهزة الأمن السورية التي أضحت حينذاك امتدادًا لأجهزة المخابرات المصرية. ولم يُرح الانفصال بين البلدين عام 1961 المجتمع المدني إلّا بصورة موقتة؛ فقد سبّب انقلاب حزب البعث عام 1963 تهميشًا للمجتمع المدني بفعل القمع السياسي للناشطين فيه. ولم يقتصر هذا القمع على جماعة “الإخوان المسلمين”، بل شملَ جميع الأطراف الفاعلة من شيوعيين وقوميين وناصريين. لم يتح مناخ القمع هذا تعزيز الفكر المعتدل من الجهات الفاعلة المختلفة في المجتمع المدني، خصوصًا جماعة “الإخوان المسلمين” الذين تطرفوا بأفكارهم ونشاطاتهم، ما جعل رؤية السباعي المعتدلة إلى حدٍّ ما تتلاشى تدريجيًا باتجاه راديكالية وتطرف.
أدّت هيمنة النظام “البعثي” وأيديولوجيته القومية العروبية على مجمل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، كنقابة المحامين واتحاد الكتّاب، إلى هشاشة غير مسبوقة للمجتمع المدني السوري الوليد. وحصّن النظام السوري البعثي قمعه للمجتمع المدني، خاصة المعارضة السياسية، بترسانة من التشريعات والمراسيم، ولا سيما المنبثقة عن حالة الطوارئ، وذلك في ظلّ غياب التشريعات المناسبة للتعددية الحزبية ولحرية تأسيس الجمعيات. وتجلّت سياسة الحزب الواحد بشكل خاص بموجب المادة الثامنة من دستور عام 1973 التي جعلت حزب البعث العربي الاشتراكي قائدًا للدولة والمجتمع، وفرضت مادته 49 على التنظيمات الجماهيرية، المشاركة الفعالة في “بناء المجتمع العربي الاشتراكي وحماية نظامه”. ولم تفلت الجمعيات القليلة التي استمرت في العمل تحت سطوة النظام، خاصة ذات الطابع الديني/ الإغاثي والجمعيات النسوية، من رقابة وتدخلات النظام الذي فرضَ أيديولوجيته البعثية على برامجها وأنشطتها.
وصول الأسد الابن إلى السلطة: انفراج محدود ومؤقت للمجتمع المدني
تنفسّ المجتمع المدني الصعداء بعد عقود من القمع، في إثر وصول الرئيس بشار الأسد إلى سدّة الحكم، بعد وفاة أبيه عام 2000، ووعوده بانفتاح سياسي واقتصادي. فعادَ دور المثقفين والناشطين إلى الظهور مع هذا المناخ السياسي الجديد الذي سيؤدي قريبًا إلى “ربيع دمشق” وما تخلله من إحياء لمنظمات المجتمع المدني التي سعت إلى تحقيق تحول ديمقراطي سلمي في البلد. ازدهرت المنتديات الفكرية وتصاعدت الدعوات المطالبة بإغلاق ملف معتقلي الرأي وبإجراء إصلاح سياسي حقيقي. وقد استغلّت الحكومة السورية الجمعيات التنموية لملء أوجه قصور الدولة في بعض المجالات. ساهمَ هذا الانفتاح على المجتمع المدني في تجديد المشهد الجمعياتي السوري، غير أنّ هذا الواقع الجديد دفعَ النظام إلى تطوير أساليب حكمه لتحجيم دور المجتمع المدني المتنامي ومنافسته. فتشكلت أغلبية المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال التنمية تحت مظلّة السلطة أو بارتباط وثيق بها، وخصوصًا بزوجة الرئيس أسماء الأسد التي أسّست عام 2002 جمعية “الأمانة السورية للتنمية”. كانت هذه الأخيرة واحدة من أكبر المنظمات غير الحكومية في سورية، ينضوي في ظلّها كثير من البرامج الاجتماعية والإنسانية التي تحظى بدعم واسع من بعض الحكومات الأوروبية ووكالات الأمم المتحدة.
كما لم يؤدِ هذا التسامح تجاه المجتمع المدني الذي أبداه الأسد في بداية حكمه، إلى إصدار قانون يسمح لمنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية بأن تحيط نفسها بإطار تشريعي ملائم. ولم يحصل عدد كبير من المنظمات غير الحكومية على أي اعتراف قانوني في البلد، كحال الأحزاب السياسية المعارضة، في ظلّ استمرار إعمال تشريعات حالة الطوارئ التي شكّلت تحديًا رئيسًا لحرية عمل الجهات الفاعلة في المجتمع المدني. وكان عام 2005 نقطة تحول مفصلية في سياسة النظام السوري تجاه منظمات المجتمع المدني التي تعرّضت لقمع غير مسبوق منذ وصول بشار الأسد إلى السلطة، حيث أُغلقت المنتديات وزُجّ بكثير من الناشطين في غياهب السجون.
 الانتفاضة الشعبية السورية عام 2011: شكل جديد للمجتمع المدني
شهدت سورية نشاطًا غير مسبوق للمجتمع المدني منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية عام 2011، إذ زادت جموع المشاركين في التظاهرات على الملايين، تمكّن بعضهم من الانتقال إلى تنظيم الحراك المجتمعي الذي انبثق عنه جماعات عُرفت باسم “لجان تنسيق” أو “تنسيقيات”، انتشرت في غالبية مناطق البلد. وطّورت بعض هذه الجماعات نفسها لتشكّل منابر إعلامية وكيانات توثق انتهاكات حقوق الإنسان وتندد بها، فضلًا عن نقل المعلومات عن الأحداث التي تشهدها البلد وتحديد مطالب المتظاهرين. كما تشكّلت مبادرات للمجتمع المدني في بعض المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، نشطت في مجالات متعددة منها إجراء المصالحات وتقديم العون للنازحين ولضحايا الصراع، وأخرى لنشر ثقافة المواطنة وإجراء الورشات عن العدالة الانتقالية، ومجالس محلية لإدارة هذه المناطق وتقديم الخدمات الضرورية لقاطنيها.
وتشكّلت منذ بداية الحراك جماعات معارضة مختلفة ومتنوعة بمطالبها وخلفياتها السياسية وداعميها. وبرزَ الانقسام بشكل خاص بين المعارضة المشكّلة داخل البلد، والتي تخضع لتهديدات النظام وضغوطه، وتلك المشكّلة في خارج البلد، والتي تعرّضت بدورها لضغوطات من طرف قوى دولية وإقليمية تسعى لتحقيق أجنداتها وخدمة مصالحها في سورية. وتعرضت منظمات المجتمع المدني لانتكاسة شديدة في ظلّ التنكيل بها من طرف النظام السوري، وأيضًا من الجماعات المسلحة المعارضة والإسلامية التي انخرطَ في صفوفها آلاف الجهاديين القادمين من بقاع العالم كافة. وأمام هذا التنكيل؛ اضطرَ آلاف الناشطين إلى الهجرة، واستقرّ قسم منهم في دول الجوار السوري، ولا سيما لبنان وتركيا اللتين شهدتا تشكّل العديد من المنظمات السورية التي تقوم بأدوار أساسية في مجال الإغاثة والإعلام والعمل الحقوقي، وذلك على الرغم من المصاعب الجمّة التي تعانيها، ولا سيما المالية والأمنية.
ختامًا، لا بدّ من القول إنّ المجتمع المدني السوري مدعو إلى تحمّل مسؤولياته، والقيام بدور حيوي، بغية مواكبة الانتقال السياسي في البلاد بما يسهم في تشكيل وجه جديد لسورية، يحقق استجابة لتطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة. كما يجب عليه، بمجرد تحقيق التغيير السياسي، أن يلعب دورًا في تحقيق عدالة انتقالية طُبقت سابقًا في بلدان شهدت صراعات أو نظمًا استبداديةً أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من أهم أركانها الكشف عن الحقيقة وتعويض الضحايا أو أسرهم، وتقديم مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب إلى العدالة، ليتم تحقيق المصالحة الوطنية وإقامة العدل والسلام المستدام.