الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المجتمعات.. عندما تنهار الدول

المجتمعات.. عندما تنهار الدول

10.05.2017
حميد المنصوري

 
الاتحاد
الثلاثاء 9/5/2017
عندما تنهار الدول كنظام سياسي وقانوني بأي وجه من الوجوه "الثورة الداخلية أو الاحتلال"، فإن بناؤها وماهيتها يتوقف على القاعدة الاجتماعية البشرية بكل أبعادها العرقية والثقافية والدينية والمادية والتاريخية، فالدولة تحمل هوية وأدواراً لهذه الهوية التي تتحدد عبر مجتمعاتها "الشعب أو الأمة" القائمة على إقليم جغرافي. فنحن مازلنا نتابع ونتفاعل ونتأثر بدول في الشرق الأوسط "كالعراق وسوريا"، التي كشفت عن حقيقة قاعدة اجتماعية بتفاعلات وحراك وصراع مذهبي وقومي وطائفي وسياسي، قد أخذ أبعاداً أمنية وإنسانية إقليمية ودولية خطيرة.
فالعراق وانهيار نظام "البعث" الحاكم فتح المجال لخروج تفاعلات اجتماعية مدفونة ومدفوعة من تراكمات وأهداف خاصة لهويات اجتماعية خارج إطار الدولة القومية، فقد برزت القومية الكردية في إقليم شبه مستقل، التي لها طموح وأثر في التمدد نحو سوريا وإيران وتركيا، وكما أصبح جزء كبير من النسيج الشيعي العراقي منطقة تخيط فيه إيران سجادة التوسع المذهبي نحو سوريا ولبنان والعراق ومنطقة الخليج والجزيرة العربية، إضافة إلى بروز مآسي واستغلال المكونات والأقليات الأخرى مثل السنة والصابئة واليزيدية والطائفة المسيحية.
حقيقةً، الوضع الاجتماعي العراقي المعاصر بما فيه من تخلف وعصبية متوحشة باسم الدين والقومية، قد حرق كل صفحات البعد التاريخي الحضاري للعراق، والذي يسبق الأديان الإبراهيمية، وجدير بالذكر بأن العراق في بداية السبعينيات من القرن المنصرم كان أكثر انفتاحاً على نسيجهِ الاجتماعي من القوميات واللغات والأديان، ومن الأمثلة العديدة خروج مجلات/دوريات ثقافية باللغة العربية والسريانية وإعطاء الأكراد حقوق لهم في العراق ومحاولة إبعادهم عن اللعبة السياسية لشاه إيران. كل ذلك الانفتاح الذي وصل إلى المسيحيين العراقيين، قد تزامن مع بقاء الولاء الأول لنظام "البعث" العراقي الذي جمع كل الأطياف الاجتماعية العراقية فيه حتى الصابئة منها. فالعراق بسقوط نظام "البعث" جراء كوارثهِ في السياسة الخارجية عكس الحالة الهوبزية "بخاصية بروز الهويات المتناحرة"، حيث أضحى عارياً من سلطة قوية تكبح مكوناتهِ الاجتماعية المتجذرة في صراعاتها وعنفها وجغرافيتها من القتل باسم الدين والمذهب والعرق والتاريخ إلى الفساد المالي والأخلاقي وانعدام الأمن الداخلي، حتى وصل الأمر إلى الأسر التي تنتمي لنسيج اجتماعي متشابه حيث السرقة والاغتصاب والقتل. وعلى هذه الحقيقة، لن يكون العراق دولة آمنة مستقرة من دون الخروج من تبعية إيران وخلق مؤسسة عسكرية وأمنية قوية تحقق العلمانية والأمن وتعيد صياغة النسيج الاجتماعي المتقاتل بالقوة المفرطة من خلال قانون وتعليم، بغض النظر عن شكل الدولة العراقية من فيدرالية أو انفصال مع كردستان العراق.
وإلى سوريا وثورتها المستمرة، بداية لابد من الكشف أن نظام "حافظ الأسد" السياسي استطاع أصلاً البقاء عبر تعزيز حضور الطائفة العلوية في أجهزة الدولة السورية، وهو أمر يؤشر إلى فقدان النظام لشرعية شعبية له، كما أن الخوف من بطش النظام السوري "فترة الأب والابن" عكس للبعض شرعية مقبولة، ولم يجد النظام السوري الحالي "وهو فاقد للشرعية القانونية والإنجاز والتنمية" في بداية الثورة سوى إيران و"حزب الله" لدعمهِ، على الرغم من كون نظام حافظ الأسد كان يخشى من توغل النفوذ الإيراني في سوريا مع وجود علاقات قوية مع نظام الملالي، إلا أن التدخل الإيراني الشيعي في لبنان وصل إلى سوريا عبر ما يسمى بالمقاومة ودعم "حزب الله" والمحافظة على نفوذ سوريا في لبنان. بيد أن التدخل الإيراني في سوريا لا يستند لقاعدة اجتماعية مثل حال العراق، ونعتقد بأن هذه الأمر من الخطورة التي أفقدت أي مستقبل لبقاء نظام بشار، وربما يعكس دولة سنية في سوريا تجاور وتتصارع مع دولة شيعية في العراق غنية بالنفط. وبين النسيج السُني الكبير في سوريا مقابل النسيج الشيعي الكبير في العراق تأتي القضية الكردية ومسألة تمددها نحو أراضٍ داخل سوريا حيث السواحل البحرية مع إمكانية اتصالها بكردستان العراق الحبيس جغرافياً عن أي بحر. إن كل ذلك يفرز صراعاً يرتبط بأمن كلا من دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا وإيران. وحتى إسرائيل المجاورة لسوريا ولبنان ستجد مصالح في التحالف والتعاون بين الأطراف المتصارعة، ويمتد الصراع إلى دول عربية أخرى كالأردن ومصر.
ومن الأهمية بمكان القول بأن طائفية النظام السوري صنعت لنفسها ثقلاً إقليمياً بعلاقاتهِ مع إيران ومحورها الشيعي وتصورت سوريا ذات يوم بأن لا أحد يستطيع إخراجها من لبنان، كما أن ثقل سوريا دولياً ارتبط بموسكو منذ الاتحاد السوفييتي عبر الأيديولوجيا الاشتراكية، وأصبحت سوريا بالنسبة لإيران جزءاً من خريطة التوسع نحو تحقيق "الهلال الشيعي"، وباتت سورياً حليفاً شرقياً لروسيا يحمل بعداً جيوسياسياً في منطقة البحر المتوسط يندرج ضمن محاولات إرجاع هيبة الاتحاد السوفييتي، ومقابلة المحور الأميركي في الشرق الأوسط "إسرائيل وتركيا"، إضافةً إلى مدى قدرة موسكو على تغيير التحالفات التقليدية في قضايا وشؤون الشرق الأوسط.
سوريا والعراق مثالان اثنان فقط على قاعدة اجتماعية عربية متعددة انكشفت فظاعتها وخطورتها عندما ضعف وانهار النظام السياسي، حيث هناك التناحر المذهبي "السني والشيعي" المرتبط بإيران ومنطقة الخليج والجزيرة العربية وبلاد الشام، إلى بروز القومية الكردية، وضعف الحضور السياسي العلماني، إلى وضع الأقليات الأكثر ضعفا كالدروز والصابئة واليزيديين والمسيحيين بجانب المواطنين المسالمين بالعراق وسوريا، ومن الإفرازات الاجتماعية الخطيرة خروج الجماعات الدينية المتطرفة والإرهابية وتمددها خارج الشرق الأوسط مع تشويه صورة الإسلام، ولا نستطيع القول بأن هناك قبولاً عربياً كبيراً لعلمانية الدولة بقدر التخوف ورفض الأنظمة الدينية بسبب الجرائم الدينية. ولنعترف في وقتنا المعاصر، بأن البعد الإنساني في الشرق الأوسط يعيش مآس مؤلمة، التي وصل مداها العالمي كما رأيناه إلى صك صورة تختزل قتل الإنسانية على إحدى قطع العملة النقدية لفنلندا "وهي صورة لجندي تركي يحتضن الطفل السوري آيلان والذي غرق ومات قبالة السواحل التركية".
حميد المنصوري*
*كاتب ومحلل سياسي