الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المافيا الأسدية: إل "كابو" أمام استحقاقات الدم

المافيا الأسدية: إل "كابو" أمام استحقاقات الدم

02.09.2019
بسام يوسف


سوريا تي في
الاحد 1/9/2019
"المافيا"- بغض النظر عن تاريخ نشوء هذا المصطلح- تعبير يقصد به عصابات الجريمة المنظمة، التي تسعى إلى المال، وهو هدفها الرئيس الذي لا تخضع طرق الحصول عليه لأي معايير قانونية أو أخلاقية، والجريمة – غالباً- هي الأداة الأساسية في عمل هذه العصابات، مهما تكن بشاعتها ووحشيتها.
في تاريخ المافيات التي اشتهرت عالمياً، كانت هذه العصابات تنمو، ويزداد نفوذها حتى تصبح إمكانية مكافحتها بالغة الصعوبة؛ فتنشأ علاقة شراكة بينها وبين الحكومة التي تدير الدولة، هذه الشراكة التي لا تلبث أن تهيمن فيها العصابة على الدولة، وهذا ما أفضى إلى اشتقاق مصطلح "دولة المافيا"، الذي يدل إلى: أن الدولة ومؤسساتها في خدمة هذه العصابات ولحمايتها.
في الشكل الكلاسيكي لسيطرة المافيا على الدولة، يمكننا ملاحظة نشوء المافيا من خارج الدولة، ثم بعد ازدياد قوتها ونفوذها تسيطر شيئاً فشيئاً على الدولة؛ أي: إن المافيا تنشأ خارج الدولة، ثم تنتقل تدريجياً إلى الدولة، فتخترق- أول ما تخترق- مؤسسات القضاء والأمن، ثم تواصل اختراقها باقي مؤسسات الدولة التي تهمها، أما في سوريا، وفي عموم دول منطقتنا المافيوية، فقد حدث العكس؛ إذ نشأت المافيات من رحم الدولة المستبدة، ثم راحت تبتلع الدولة شيئاً فشيئاً.
ولأن "جينات" المافيا تتشابه كثيراً مع "جينات" الدولة المستبدة، فإن أسهل الأمور هو في تحويل هذه الدولة المستبدة إلى صيغة الدولة المافيوية؛ لأن الديكتاتور، أو القائد، الذي يتحكم بالدولة المستبدة، هو ذاته الذي يحمل لقب "كابو" في المافيا، وهو الحاكم الفعلي للعصابة بأكملها، وهو الذي يستولي على القسم الأكبر من الأرباح، وهو الذي يوزع ما تبقى على أفراد العائلة بحسب ما يرى، وهو الذي يعيّن قادة العصابة، وينصّبهم على مراكزهم مدى الحياة، ويقيلهم منها إذا شاء، عندما يشاء. أما عندما ينزلق أحد هؤلاء إلى مخالفة مصلحة العائلة (المافيا)؛ فإن القتل، أو العزل، أو النفي، هو ما ينتظره حين أدنى إشارة.
لم يسبق أن عرف العالم نموذجاً لدولة المافيا شبيهاً بالدولة "المافيوية" السورية، التي أسسها حافظ الأسد، "كابو" المافيا السورية؛ فهذه المافيا تحظى باعتراف عالمي، ولها سفارات في أغلب دول العالم، ولها جيشها الذي يصل تعداد عناصره إلى مئات الآلاف، ولها مندوب بالغ الوقاحة والصفاقة في الأمم المتحدة، ولها أجهزة استخباراتها التي تتعاون مع كبرى أجهزة الاستخبارات العالمية...إلخ.
عندما انفجرت الثورة السورية، وكان انفجارها حتمياً، مهما تأخرت، جنّدت دولة "المافيا" كل مؤسسات الدولة، وكل الأدوات الدينية والاقتصادية والإعلامية والسياسية، لإجهاض هذه الثورة، وهو ما نجحت في تحقيقه، حتى هذه اللحظة على الأقل، بكل الوسائل المتوحشة، وبمساعدة دول خارجية وميليشياتها وجيوشها، إضافة إلى التواطؤ الدولي الذي يرى مصلحته في منع شعوب هذه المنطقة من إنجاز دوله الحديثة، محاولة أن ترغم الشعب السوري على البقاء داخل حظيرة الدكتاتورية والفساد الذي كان يعيش فيها سابقاً.
إذا كانت الدولة بمفهومها العصري، ترتكز أساساً على أنها مؤسسات تمثل شعوبها؛ أي: إنها تعمل من أجل الصالح العام، وإنها تضمن حقوق مواطنيها، فتقدم لهم الأمن والعدالة وسيادة القانون، بالإضافة إلى حق العمل والتعليم والطبابة وحفظ حقوقه الإنسانية، وهي بهذا تختلف عن الدولة المستبدة التي تمثل مصلحة فرد أو جماعة، وهي التي لا يهمها الصالح العام إلا بمقدار ما يخدم مصلحتها، فإن الدولة المافيوية أشد إضراراً بالصالح العام وبمصير محكوميها وبمستقبلهم، ليس هذا فحسب، بل إنها لا تتوانى عن نسف فكرة الدولة كلها، والعودة بالشعب إلى تكوينات ما قبل الدولة، وربما إلى تلاشي الدولة، من أجل مصلحة العائلة، أو من أجل مصلحة ال"كابو" تحديداً وحصراً.
إن وقوف قسم من المحكومين في صف المافيا الحاكمة (كما يحدث في سوريا اليوم) مردّه أساساً إلى ضعف وعي الطبقات الشعبية بوظيفة الدولة الحديثة، وغايتها وعلة وجودها، يضاف إلى ذلك انكفاء المثقفين والمفكرين، والأحزاب، عن دورهم الحقيقي، فاسحين المجال لاستباحة المافيا قوى المجتمع صاحبة المصلحة الحقيقية في إحداث الانتقال الحقيقي من دولة المافيا إلى دولة المواطنة.
ما يجري في سوريا، داخل الحلقة الضيقة التي تحيط بالعائلة الحاكمة، لا يمكن قراءته من خلال مفهوم الدولة، مهما اختلف توصيفها، ولعل الطريقة الأمثل لفهمه وقراءته واستشفاف مآلاته، هو رؤيته من خلال علاقات العائلة المافيوية بباقي أطراف العصابة
أكثر ما يخيف ال "كابو"، هو وجود شخص، أو عائلة، يمكنها قيادة المافيا، هذه الإمكانية تفتح الباب لحرب غالباً ما يكون القتل وسيلتها الأساسية، والصراع هنا لا يخضع لقوانين الصراع داخل أجنحة السلطة في دولة لها مؤسساتها، إذ غالباً ما تتمكن هذه المؤسسات من حسم الصراع بالطرق الديمقراطية المعروفة. لكن الصراع في الدول المافيوية يحتكم لقانون المافيات.
لعل المفارقة الأهم اليوم في سوريا، هو ضعف ال "كابو"، وعجزه عن الإمساك بكل مفاصل الصراع؛ وفداحة الدم الذي سفك، الأمر الذي تطلب انتقال دور ال "كابو" من بشار الأسد، إلى "كابو" أكثر قدرة، هو: "بوتين". هذا يستدعي إعادة صياغة جديدة لبناء هرم العصابة "المافيا"، ويستدعي بالتالي إعادة ترتيب جديدة لمراكز النفوذ والمصالح، وربما يؤدي إلى إشعال حروب تصفية بين أطراف العصابة نفسها.
إذا كان الانتقال من الدولة إلى المافيا، يفرض انتقالاً من العائلة "المركز" إلى حلقات أوسع وأوسع؛ لتغطي مساحات، تتوسع باستمرار من الدولة والمجتمع؛ أي العمل من القمة إلى القاعدة، فإن الانتقال من دولة المافيا إلى دولة المواطنة، يتطلب تفعيل شعور المواطنة أولاً، وزرع الوعي بدور الدولة ووظيفتها وتكريسه، وخلق الأدوات التي تمكن الشعب من ممارسة دوره الحقيقي كمصدر للسلطة؛ أي باختصار: الانطلاق من القاعدة إلى القمة، وهذا ما يحتاج إلى جهد أطراف سورية كثيرة، لها مصلحة في إنهاء دولة المافيا، وإقامة دولة المواطنة.