الرئيسة \  تقارير  \  المؤسسات الإسلامية في الدول العربية: تحليل منهجيات السيطرة والاستقطاب والنزاع

المؤسسات الإسلامية في الدول العربية: تحليل منهجيات السيطرة والاستقطاب والنزاع

08.01.2022
فريدريك ويري


مؤسسة كارنيغي                                   
الخميس 6/1/2022
يتزايد في الوقت الراهن تدخل الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية في عمل المؤسسات والمنظمات الدينية بكافة أشكالها وتعريفاتها سواءً كانت وزارات، أو هيئات، أو جامعات، أو مساجد، أو مؤسسات خيرية، أو أوقاف (الأوقاف الإسلامية تشتمل على أصول نقدية وعقارية) أو زوايا صوفية (الزوايا هي مدارس أو محافل أو طرق دينية تلعب دوراً اجتماعياً هاماً في المجتمعات المحيطة بها) أو منظمات شباب أو منصات إعلامية أو غيرها. وتمارس الأنظمة لعبة السيطرة على المؤسسات الدينية ومحاولة استقطابها ودمجها مستخدمة كل وسيلة ممكنة، قديمةً كانت أم حديثة، للتحكم فيما يجري داخل تلك المؤسسات من عمليات التوظيف والتطهير وإصدار القوانين، والتنظيم الإداري، والإشراف المالي، وغيرها. ولا يخفى على أحد أن الدول العربية الحديثة منذ إنشائها وهي تعمل على توظيف ومأسسة الإسلام الذي ورثته منذ عهود الاستعمار الأوروبي وما سبقه من حكم الامبراطورية العثمانية، وهي عملية استمرت عبر السنين بالتوازي مع تغلغل الدولة في الحياة اليومية للمواطن العربي1.
وعلى الرغم من ذلك فإن محاولات السيطرة هذه ليست أحادية التوجه، فالشخصيات والمنظمات الإسلامية الموالية للدولة غالباً ما تتمتع بنفوذ وشأنٍ كبير بسبب الدور الذي تلعبه كوسيط بين النظام والمجتمع. وكلما زادت شعبيتها ورأسمالها المجتمعي زادت قدرتها على التفاوض مع السلطة الحاكمة، ومقايضة صمتها عما يدور في عالم السياسة مقابل حريتها في تناول بعض القضايا الشخصية والاجتماعية (على الرغم من تعدي النظام على هذه القضايا أيضاً). ولكن الشخصيات الدينية الموالية للدولة تجد نفسها في موقف يفرض عليها أن تجتهد باستمرار لتنقيح مظهرها الأخلاقي ولتدرأ عن نفسها شُبهة المنافحة عن النظام وأجندته السياسية الدنيوية بدلاً من أن تكون صوت الإيمان والتقوى.
عدا ذلك فإن الخط الفاصل بين الإسلام الرسمي والإسلام غير الرسمي هو خط مشوش وملتبس إلى حد كبير. فالتصريحات عن الإسلام تنهمر من كل حدب وصوب سواء من المقربين للنظام أو من غيرهم من رجال الدين الرسميين أو القضاة أو المشرّعين أو حتى الإعلاميين بمتابعيهم الكُثُر ومعرفتهم الضحلة بالجوانب الفقهية للإسلام2. وفي بعض الأحيان تعمل الدولة على إنشاء وتمويل ورعاية دوائر اجتماعية وسياسية مستحدثة بهدف الترويج لما يسمى بحركة الإصلاح الإسلامي ودعمها عن طريق إجراء تغييرات قانونية وإدارية.
فريدريك ويري                         
تركّز أبحاث ويري على الإصلاح السياسي والقضايا الأمنية في دول الخليج وليبيا، والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط عموماً.
وترجع أهمية ما تقوم به الأنظمة العربية حالياً من تدخل كبير وسريع ومعقد في المجال الإسلامي إلى التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي واجهتها في الأعوام التي أعقبت الربيع العربي الذي بدأ في 2011 والتي فاقمتها مؤخراً جائحة كورونا. وقد حشدت تلك الأنظمة مؤسساتها الدينية الحكومية واستخدمتها أحياناً كأداة لتلميع مشروعية الحكومة في مواجهة القلق الجماهيري المتصاعد بسبب تلك الكارثة الصحية العامة وما ترتب عليها من انهيار اقتصادي-من خلال السيطرة على الخطاب العام والمساجد وعمليات توزيع الإعانات والخدمات- وأحياناً أخرى تستخدم ككبش فداء يتلقى اللوم بدلاً عنها إن لزم الأمر3.
تعود رغبة الدولة في استقطاب المؤسسات الدينية والسيطرة عليها إلى تخوفها من الحركات الإسلامية المتطرفة وما تمثله من خطر عسكري داخلي خاصة في ظل ضغوط الحلفاء والشركاء الغربيون الدافعة للتصدي لهذه التهديدات كجزء من خطة واسعة النطاق لمكافحة التطرف العنيف. ولا شك أن فكرة محاربة التطرف هي التي شجعت الحكومات العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية على الترويج لما تفعله من رقابة وتنظيم للمؤسسات الدينية الإسلامية وخطابها بوصفه إصلاحات.
ولكن هذه الإصلاحات، التي لا تتردد أحياناً في استهداف ناقدي النظام من الإسلاميين، لا تزيد في حقيقة الأمر عن كونها خدعة ترتكز على افتراض معطوب بأن الدافع الأساسي للعنف والتطرف هو التفسير الخاطئ للإسلام. وكل ما تفعله هذه الإصلاحات هو تقديم صورة مريحة للجمهور الغربي عما يتم إحرازه من تقدم في مكافحة التطرف بينما هي في الواقع تتجاهل أهم مصادر التشدد وأكثرها حضوراً على أرض الواقع ألا وهو الانتهاك المستمر لحقوق الإنسان العربي والتعدي على حقوقه القانونية، سواء في التقاضي أو في السجون، وانتشار الفساد في أجهزة الدولة، وكلها مفاسد أسهمت في الحالة المزرية التي وصلت إليها الدول العربية حالياً. وبعبارة أخرى فإن الترويج لما يسميه الحكام العرب الإسلام المعتدل عن طريق مأسسة وتنظيم المجال الديني يعني الوصول إلى صورة عن الإسلام لا تمثل تهديداً لكياناتهم السياسية وبقائها، وليس إسلاماً يقلّم أظافر التطرف والعنف بالفعل كما يأمل صناع القرار الغربيون.
ومن ناحية أخرى، وعلى نقيض السياسات التدخلية للأنظمة العربية القوية، فإن المؤسسات الإسلامية في الدول العربية التي مزقتها النزاعات قد أضحت إما كيانات مجزأة أو غنيمة تتبادلها الفصائل السياسية والعسكرية المتناحرة. ولنا في كل من ليبيا وسوريا واليمن مثال، حيث ارتبط مصير كافة المؤسسات الإسلامية من وزارات ومدارس ومعسكرات شبابية وأوقاف وهيئات خيرية بمصير تلك الدول التي انهارت وتقطعت أوصالها بسبب الحروب الأهلية التي شهدتها. وأسست جماعات المعارضة والحكم الذاتي، كل في منطقة نفوذه، هيئات دينية محلية متنافسة تتمتع باستقلال كبير حصلت عليها بسبب افتقار القيادات السياسية للموارد التي تساعد على دمجها واستقطابها. وغالباً ما تكون المؤسسات الإسلامية في تلك البيئات المتصارعة أكثر استجابة للمؤثرات الاقتصادية والأيديولوجية الخارجية سواء كان مصدر تلك المؤثرات هو القوى الإقليمية التي تشن حروباً بالوكالة أو القوى الدولية الغربية.
وقد توصلت وكالات الغوث والحكومات الغربية إلى أن الشخصيات الدينية في الدول التي تعاني من النزاعات المسلحة أو التي تتعافى منها يمكن أن يكونوا شركاء في الوساطة والتنمية المجتمعية4. ولكن، كما هو الحال فيما يتعلق بمكافحة التطرف العنيف، فإن محاولات الغرب للتواصل مع الجهات الإسلامية الفاعلة في بيئات النزاع تتسم بالتعقيد الشديد حيث إن الشركاء الإسلاميين غالباً ما يكونون مسيسين ومتحزبين نتيجة سنوات الحرب الطويلة وبالتالي فإن إدعاءاتهم بأنهم يتحدثون باسم مجتمعاتهم الممزقة أو أن الدوافع الوحيدة لعملهم كوسطاء هي دوافع أخلاقية بالأساس ربما تكون غير مقنعة. علاوة على ذلك فإن الاهتمام الغربي قد يؤدي بشكل غير مقصود إلى تضخيم دور تلك الشخصيات الدينية وزيادة هوة الانقسامات القائمة على اختلاف الهوية وتعميق الدوافع الدينية للحروب الأهلية ما يؤدي إلى تحييد العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية5. بالإضافة إلى ذلك يصعب قياس مدى فعالية تلك الشراكة.
وبحسب خبير تنمية أمريكي، يتمتع بخبرة تزيد عن عقد من الزمان في شؤون الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فإن" مبادرات الولايات المتحدة الأمريكية (لمكافحة التطرف العنيف) تميل غالباً إلى منح المؤسسات الإسلامية اهتماماً ظاهرياً لا يعول كثيراً على النتائج، وأن برامج المنح الممولة حكومياً إنما تدعو" قادة المجتمع الديني المحليين" إلى ورش العمل الخاصة بحل النزاعات مرة أو مرتين ذراً للرماد في العيون بلا التزام حقيقي بالبحث عن الأسباب الأساسية الكامنة وراء تلك المأساة"6
كيف تتفاعل المؤسسات الدينية مع الحكومات العربية
حتي يومنا هذا لم تحظ العلاقة المعقدة والمتداخلة بين المؤسسات الإسلامية والأنظمة العربية الحاكمة بالاهتمام التحليلي أو الأكاديمي الذي تستحقه مقارنة بما حصلت عليه سياسات الأحزاب الإسلامية أو التشدد والتطرف الإسلامي7. وتهدف الأوراق البحثية المدرجة في هذه الدراسة والتي تفحص المملكة العربية السعودية واليمن وسوريا وليبيا ومصر والجزائر والمغرب إلى معالجة هذه الثغرة استناداً إلى حصيلة عامين من البحث والعمل الميداني والمقابلات الشخصية مع مسؤولين عرب وشخصيات دينية بارزة.
وتُلقي هذه الدراسة الضوء على الآليات التي تحكم العلاقة بين المؤسسات الإسلامية والهيئات الحكومية بكافة أشكالها بدءاً من الأنظمة الرسمية القوية في البلاد العربية المستقرة نسبياً إلى الأنظمة والحركات غير الرسمية وشبه الحكومية وغير الحكومية في البلدان العربية التي تعاني من النزاعات أو التي تتعافى منها. ولا نهدف هنا لقياس موازين القوى أو لتحديد رابح أو خاسر ولا يمكن لنا أن نقدم تكهنات بعينها أو حلول سياسية محددة، ولكن يمكننا أن نقدم من خلال هذه الورقة البحثية شرحاً تفصيلياً لجانب هام من جوانب الحوكمة في العالم العربي طالما ظل مهملاً بالرغم مما يترتب عليه من نتائج عديدة وهامة تضعها الحكومات الغربية على رأس أولويات سياساتها الخارجية مثل مكافحة الإرهاب وتعزيز حل النزاعات وضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي المستقبلي للدول العربية.
تلعب المؤسسات الإسلامية ورجال الدين الإسلامي دوراً وساطياً هاماً بين الأنظمة الحاكمة والمجتمعات التي تحكمها. ويستخدم الحكام العرب في تعاملهم مع المجال الديني وممثليه وسائل متعددة تتأرجح بين الحوار ومحاولات الاستقطاب إلى الخلاف والإكراه الصريح. ولذلك فلا يمكن إغفال أهمية تلك المؤسسات بوصفها نوافذ يمكن من خلالها رؤية التفاوت الهيكلي بين الدول العربية وضآلة مشروعية أنظمتها الحاكمة.
فالأنظمة الواثقة من نفسها سياسياً واجتماعياً لم تتردد عبر التاريخ في إفساح المجال ومنح الحريات للمؤسسات الدينية وممثليها ولو حتى بغرض مراقبتها، أما الأنظمة المذعورة المصابة بالرهاب فقد وضعت القيود والعراقيل أمام مؤسساتها الدينية وأفقدتها القدرة على الحركة والمناورة ما أدى إلى نشوء حركات معارضة لا تجد لنفسها متنفساً في العلن فتلجأ إلى التخفي والعنف في بعض الأحيان.
وتتزايد أهمية فهم هذه المؤشرات في ضوء ما أسماه باحثو مؤسسة كارنيغي "عقد القرارات العربية" حيث سيؤدي انخفاض أسعار النفط وتراجع الطلب العالمي عليه إلى حرمان العديد من القادة العرب من الموارد التي طالما اجتازت اختبار الزمن في شراء الأصوات المعارضة في المجتمع8. وتمثل الحقبة القادمة تحدياً خاصاً للأنظمة الحاكمة في ما يسمى بالدول الريعية حيث يوزع الحكام عائدات النفط لشراء ولاءات رجال الدين والتحكم في المنظمات الدينية المتعددة9.
ويتناول ناثان ج. براون وياسمين فاروق في الورقة الافتتاحية لهذه المجموعة  أهم هذه الدول الريعية قاطبة وهي المملكة العربية السعودية والتي تجاوز تأثيرها الديني الكبير حدودها الجغرافية بسبب ما تتمتع به من ثروات طائلة وأحقية تاريخية في القيادة الدينية وأجهزة إعلامية قوية وآليات دعوية هائلة. وبينما تحظى الأجندة الإصلاحية التي تَقدم بها ولي العهد المتسلط والطموح محمد بن سلمان بتغطية إعلامية كبيرة فإن البحث يشير إلى أن التغييرات المقترحة على الهيكلة الدينية والتي أثارت كل هذا الصخب الإعلامي ماهي إلا تغييرات شكلية وليست جوهرية. وعلى الرغم من أن الطفرة في التوجيهات الحكومية للمؤسسة الدينية هي طفرة مهمة وغير مسبوقة في التاريخ الحديث للمملكة إلا إن الفحص الدقيق لتلك التوجيهات يبين أنها تركز على جوانب التدين المظهرية بدلاً من التركيز على تغيير الجوانب العقدية الحقيقية، فضلاً عن ذلك فإن كل هذه التغييرات يمكن التراجع عنها، والأهم أن أثر تدخل الدولة في المجال الديني سواء من خلال تأثيرها على ولاءات رجال الدين، أو على وجهة النظر المحلية والعالمية في الشرعية الإسلامية لهذا النظام الملكي، يظل غير مؤكد على المدى الطويل.
أما اليمن، وهي واحدة من أفقر البلدان العربية وموطن واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية التي تسبب فيها البشر على مستوى العالم منذ عقود، فطالما كانت مرتعاً للنفوذ الديني السعودي من خلال التيار الإسلامي السلفي المحافظ. ولكن هذا لم يمنع رجال الدين في اليمن من أن يكون لهم هم أيضاً تأثير كبير على الحركات الدينية خارج اليمن وأن يتحدى تأثيرهم أحياناً مبادئ السلفية السعودية بطرق قد لا تكون ملحوظة دائماً. وفي أعقاب الحرب الأهلية اليمنية التي اندلعت في 2014 والتي فاقمها التدخل العسكري السعودي والإماراتي في 2015، تحولت المؤسسات الإسلامية وخاصة المدارس والمعاهد والمعسكرات التابعة للسلفيين والشيعة الزيديين والصوفية والإخوان المسلمين إلى مواقع عسكرية وسياسية ترتع فيها جماعات المعارضة وممثلو النفوذ الأجنبي. وتتجنب الباحثة اليمنية ميساء شجاع الدين في حديثها عن هذا الصراع الطائفي إعطاء وزنا كبيرا إلى الهوية الطائفية باعتبارها دافعا من دوافع الحرب. ومع ذلك فهي ترى أن التعليم الديني، كما يراه الفاعلون المحليون والأجانب، في هذه الدولة الممزقة يعتبر أداة مهمة من أدوات التعبئة الأيديولوجية والتنشئة والتجنيد، حيث تعيد الحرب الأهلية الطاحنة تشكيل شخصية المدارس والمؤسسات الإسلامية سواء التقليدية منها أو الأكثر معاصرة بطرق يمتد تأثيرها لأجيال قادمة.
بعيداً عن الجزيرة العربية، تعرضت سوريا لدمار كبير بسبب الحرب الأهلية الطويلة والتمزق الإقليمي والسياسي الذي تسببت فيه القوى الخارجية ووكلاؤها على أرض المعركة. ويوضح توماس بييريت وليلى الرفاعي في دراستهما كيف أثر الناتج الكلي لجميع هذه العوامل تأثيراً كبيراً على العلاقة الخلافية بين المؤسسات الدينية والجهات السياسية الفاعلة خاصة في الجيوب البعيدة عن سيطرة نظام الرئيس بشار الأسد وهناك يحدد الباحثان ثلاثة أنواع من الحوكمة الدينية لكل منها شخصية محلية متميزة تعكس توجهات الفصيل المعارض المهيمن وتعكس أيضاً توجهات الراعي الخارجي وبالأخص الراعي التركي.
بينما يبسط النظام السوري قبضته على ما يزيد عن ثلثي البلاد، يسعى لتأمين وتوطين المؤسسة الإسلامية السنية كجزء من استراتيجياته للحكم. ويُعتبر هذا التوجه استمراراً في التدخل الرأسي في الشؤون الدينية الذي بدأه الأسد عشية انتفاضة 2011. وبالرغم من الازدهار الذي شهدته محاولات الإدارة الذاتية المبدئية إلا أن المؤسسات الإسلامية حتى في مناطق المعارضة لا تزال عرضة للتدخل العنيف من الفاعلين السياسيين المحليين الذين يحتمون بقوتهم العسكرية. ويخلص الباحثان إلى أنه من المرجح أن يصبح الاحتكاك الناتج عن هذا الخلل في التوازن هو العرف السائد في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والمناطق المستقلة عنه في المستقبل المنظور.
على غرار سوريا، تُعد ليبيا دولة عربية أخرى دمرتها الحرب وأدت إلى تمزيق وحدة أراضيها وانهيار مؤسساتها وسمحت للقوى الخارجية بالتدخل في شؤونها منذ الإطاحة بحاكمها الديكتاتور معمر القذافي. أتعرض في بحثي عن ليبيا للكيفية التي تحولت بها الأوقاف الليبية إلى عامل جاذب للمنافسات الشرسة، والعنيفة أحياناً، بين التيارات الإسلامية الليبية، خاصة المسماة بالسلفية المدخلية بفصائلها السياسية وجماعاتها المسلحة ومجالسها البلدية المحلية والقوى الأجنبية التي تدعمها والتي يتزايد نفوذها. وكان الدور الذي تلعبه الأوقاف في الإشراف على العديد من الأصول العقارية وتعيين أئمة المساجد يُمكّنها من التواصل مع الجماهير بشكل جعل الإسلاميين وغير الإسلاميين على حد سواء يعتبرونها مصدرا هاماً من مصادر المكانة والقوة الاقتصادية في الدولة.
بمتابعة المسار المضطرب لهذه المؤسسة في فترة ما بعد 2011، أتعرض للإرث المشحون الذي خلفه حكم القذافي، والذي اعتبر الاستيلاء على حيازات الأوقاف جزءاً من سياسات التنظيم الجماعي للأراضي، وأعود إلى فترة الاستعمار الإيطالي وما وقع خلالها من عمليات استغلال مشابهة، وأخلص إلى أنه بعد مرور ما يزيد على عقد من المنافسات العنيفة والاستقطاب السياسي والتغييرات المتوالية في قيادات الأوقاف فإن نظرة الجماهير لهذه المؤسسة قد تغيرت تغييراً لا رجعة فيه، وأعرض أيضاً ملاحظاتي حول الآلام الليبية المتوطنة والمتمثلة في النخب المتنافسة والفساد والتوترات المركزية المحلية.
ننتقل من ليبيا إلى مصر، حيث يوضح لنا ناثان ج. براون وميشيل دن في ورقة بحثية أخرى أبعاد التدخل المصري في الشأن الليبي وخاصة في المجال الديني وهو تدخل قديم تزايد مؤخراً بسبب مخاوف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من التحديات المحلية والإقليمية التي صاحبت عملية انتقال السلطة إليه من جماعة الإخوان المسلمين. ويشير البحث إلى أن الخوف كان أهم الدوافع للحملة الضخمة التي قادها السيسي لتعزيز سيطرة الدولة على المؤسسات الإسلامية المصرية من أصغر المساجد والزوايا إلى أهم المراكز الدينية العلمية وأكثرها تبجيلاً- الأزهر الشريف. ولكن هذه الحملة التي لقيت استحساناً غربياً باعتبارها عملية إصلاحية تستهدف القضاء على التطرف العنيف، والتي استخدم فيها السيسي كل أدواته الحكومية والقانونية والمالية وحتى القمعية، كانت نتائجها غامضة فيما يتعلق بتجفيف المنابع الحقيقية للعنف نظراً لما تمارسه الدولة من انتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان ولتدهور الوضع الاقتصادي وما صاحب ذلك من بطالة وفقر.
بالإضافة إلى ذلك، يفند الباحثان وجهة النظر المتعلقة بسيطرة النظام المطلقة على الشئون الدينية، فبالرغم من أن العديد من المؤسسات الدينية، بمن فيها من رجال الدين، قد أًخضِعَت لتحكم الرئيس، أو تم إغلاقها كلياّ إلا أن البعض الآخر، مثل الأزهر على سبيل المثال، كان ينافح عن استقلاله بعنف وقوة. بالإضافة إلى ذلك فإن المنافسة على السلطة الدينية يشترك فيها أطراف عديدة، ربما أكثر من المعتاد، فبالإضافة إلى الرئيس المصري هناك البرلمان وهناك المتنافسين داخل المؤسسات الدينية نفسها.
تخلص الورقة البحثية إلى أنه على الرغم من أن التدين لا يزال جانباً هاماً من جوانب الحياة العامة المصرية إلا أن الأثر الكلي لتدخلات النظام وتقليص المساحة التي تتحرك فيها المؤسسات الإسلامية كان له أثر سلبي على ثقة المجتمع عامة والشباب خاصة في السلطة الدينية.
وينتقل البحثان الأخيران في هذه المجموعة إلى المغرب العربي حيث يعرضان العلاقة بين دول المغرب العربي والمؤسسات الدينية الصوفية التي طالما اعتبر العالم الغربي أنها تقدم شكلاً سلمياً ومعتدلاً للإسلام وأنها معادل ايديولوجي سلمي للسلفية الجهادية المتشددة خاصة مع ما تتمتع به من ثقل تاريخي في الحياة الاجتماعية والروحية والسياسية للمغرب العربي. وفي تحليلهما لكل من المغرب والجزائر يستكشف كلا من أنور بوخارس و انتصار فقير كيف سارعت الأنظمة في كلا البلدين إلى استغلال هذا التصور واستخدام الصوفية في إرساء سلطة الدولة محلياً وتعزيز سياساتها الخارجية خاصة في الغرب وفي بلدان أخرى في أفريقيا. ولعل هذا الانتفاع بالصوفية ليس جديداً تماماً، إذ طالما مارس الصوفيون نفوذهم في المغرب العربي على مدار التاريخ برغم السلطة الحاكمة بما في ذلك القوى الاستعمارية مثل الإمبراطورية العثمانية وانجلترا وفرنسا وإيطاليا، حيث قدموا أنفسهم كوسطاء وحلفاء، بل وأعداء مسلحين إن اقتضى الأمر.
في ضوء هذه الخلفية التاريخية يرى بوخارس أن النظام الجزائري قد استخدم كل ما أتيح له من أدوات اقتصادية وسياسية وإعلامية لترقية الصوفية في الحياة العامة الجزائرية وصقل إرثها التاريخي بين المواطنين واستخدامها لسد الثغرات في خدمات الرعاية الاجتماعية التي تقدمها الدولة وأيضاً لموازنة السلفية المتشددة. وفي المقابل تُخضِع المؤسسات الصوفية علاقاتها التبادلية -الرعوية مع الدولة لحسابات دقيقة تحمي بها سمعتها. ويرى بوخارس، مستنداً على مواضيع دراسات أخرى، أن حركة التعبئة السياسية الشعبية في الجزائر والتي في طليعتها حركة "حراك" الديموقراطية قد خلقت العديد من الصعوبات والاختيارات للصوفيين الذين طالما عانوا، بحسب الباحث، من تشابكهم مع النخب السياسية غير المحبوبة شعبياً.
أما بالنسبة للمغرب فتشرح فقير كيف أن النظام الملكي الحاكم، الذي طالما استقى شرعيته الدينية والسياسية من انتسابه للسلالة النبوية المحمدية، يسعى بطرق مماثلة لاستخدام الحركة الصوفية كأداة سيطرة وتحكم من خلال إدارتها وشرعنتها والترويج لها. وكيف أن هذا أدى في الواقع لعكس حالة التردي التي تعرضت لها المكانة الاجتماعية للحركة الصوفية في المغرب ويعكس أيضاً رغبة المملكة في أن يراها أصدقاؤها في الغرب مركزاً لنشر الإسلام المعتدل في الداخل وعبر القارة الأفريقية. وبالنسبة للقارة الأفريقية فإن الترويج للصوفية كقوة ناعمة مهمة يمكن أن يساعد النظام على التواصل الاقتصادي والسياسي مع الدول الأفريقية وصولاً للجنوب الساحلي. ولكن كما توضح أبحاث أخرى فإن تكلفة هذا التدخل الحكومي تضاعفها تكاليف شرعية تدفعها المؤسسات الصوفية وفاعليها.
بالنظر لما تقدمه هذه الأوراق البحثية مجتمعة يمكننا بوضوح رؤية صورة مركبة للتفاعلات الديناميكية بين المؤسسات الإسلامية والحكومات العربية وهي تفاعلات، بطبيعتها، ليست دينية فقط، ولكنها أيضا تفاعلات اجتماعية يترتب عليها آثار سياسية واقتصادية بعيدة المدى.
شكر وتقدير
يتقدم المؤلفون بالشكر لمؤسسة هنري لوس التي لولا منحتها السخية لما تمكنوا من إجراء البحوث التي احتاجتها هذه الدراسة. ويشكر المؤلفون السيدة توبي فولكمان مديرة المبادرات السياسية في المؤسسة على دعمها وتشجيعها الدائمين. والشكر موصول لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومنسوبيها الذين دعمو الدراسة بما قدموه من بحوث سياقية هامة ونخص بالشكر جيمس سي.غايثر، والزملاء الباحثين ساندي الخطامي وجاكلين ستومسكي، وكلاً من هيلي كلاسن وصامويل بريز وريان ديفرييس من فريق التواصل بكارنيغي الذين قاموا بتحرير المواد مجمعة بشكل متميز. ونشكر أيضاً كلاً من كيري دوغاندزيك وماديسون أندروز على تقديمها دعما برامجيا حيويا. أيضاً نتقدم بالشكر للباحثين المميزين من خارج مؤسسة كارنيغي والذين كانت لمراجعاتهم واستعراضهم الدقيق لعمل نظرائهم جل الفائدة، والذين تم شكرهم بالاسم في كل ورقة بحثية. وأخيراً وليس آخراً ما كان لهذا البحث أن يظهر بالصورة التي خرج بها لولا المساعدة الجوهرية التي قدمها باحثون محليون وموظفون وناشطون وشخصيات دينية شاركت في المقابلات التي احتاجها العمل سواء في الميدان أو عن بعد. ولم نتمكن من ذكر اسمائهم لأسباب أمنية.
هوامش
1"الإسلام الرسمي في العالم العربي: الصراع على السلطة الدينية"، ناثان ج. براون، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 11 مايو، 2017.
 https://carnegieendowment.org/2017/05/11/official-islam-in-arab-world-contest-for-religious-authority-pub-69929
2 للمزيد عن هذا اقرأ كتاب "Arguing Islam After the Revival of Arab Politics" لناثان ج. براون،مطبعة جامعة اكسفورد،نيويورك، 2016.
3فريدريك ويري" السلطة الإسلامية والأنظمة العربية في زمن الجائحة"، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي،16 أبريل، 2020. https://carnegieendowment.org/2020/04/16/islamic-authority-and-arab-states-in-time-of-pandemic-pub-81563.
4لقراءة المزيد عن هذا الموضوع خاصة فيما يتعلق باليمن أقرأ "معالجة السلفية الجهادية في اليمن: الدور الذي يلعبه الدين والمجتمع في غمار الحرب الأهلية"، أندرو ماكدونل، هنري بربريدج والدكتور يارا زغيب سلوم، المركز الدولي للدين والديموقراطية، أعسطس 2017. https://icrd.org/wp-content/uploads/2017/11/ICRD-Report-Addressing-Jihadi-Salafism-in-Yemen-Final-Copy.pdf.
5لمزيد من النقاش ولاستطلاع أدبيات المبحث انظر "استخدام المنظمات غير الحكومية للبعد الديني في حل النزاعات، مع دراسة حالات في نيجيريا وميانمار"، جوهانز كوينراد دي جونج، أطروحة ماجستير، جامعة ليدن 2018.
https://openaccess.leidenuniv.nl/bitstream/handle/1887/64644/Koenraad%20de%20Jong%20-%20Master%20thesis.pdf?sequence=1
يقول المؤلف" وعلاوة على ذلك فإن جعل الدين هو المحور الأساس في أي نزاع يؤدي لخلق مراكز قوى داخل المجموعات بسبب منح القادة الدينيين قوة أكبر من تلك التي اعتادوا الحصول عليها من قبل. كما أنه يخلق ويعزز الانقسامات من خلال التنميط والتركيز على الاختلافات"
6الإيميلات المتبادلة بين المؤلف و خبير تنمية امريكي في 14 أكتوبر، 2019.
7استثناءً لما سبق توجد مجموعة دراسات عن السلطة الدينية في قطر والسعودية وتونس وتركيا والمغرب والأردن قامت بها مؤسسة بيكر التابعة لجامعة رايس بدعم من مؤسسة هنري لوس، وتشمل الدراسات بيانات استطلاعية فريدة. للاطلاع على المشروع يمكن الرجوع إلى "الحراس الجدد للدين: الإسلام والسلطة في الشرق الأوسط"، قادر يلدريم، مارس 2019.
https://www.bakerinstitute.org/research/new-guardians-religion-islam-and-authority-middle-east. وفي نفس السياق تعمل مؤسسة بروكينغز بالشراكة مع مركز بركلي للدين والسلام والشؤون الدولية في جامعة جورج تاون على مشروع يتناول الجغرافيا السياسية للقوة الدينية الناعمة ويتفحص الكيفية التي تم بها شحذ الفاعلين والهيئات الإسلامية في سياسات الدول الشرق أوسطية. انظر" الإسلام حرفة الدولة: كيف تستخدم الحكومات الدين في السياسات الخارجية"، بيترماندفيل وشادي حميد، مؤسسة بروكنغز، نوفمبر 2018. https://www.brookings.edu/research/islam-as-statecraft-how-governments-use-religion-in-foreign-policy.
8 "عقد قادم للقرارات العربية"، مروان المعشر ومها يحي في "اليوم التالي، الملاحة في عالم ما بعد الجائحة، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 9 سبتمبر، 2020.
https://carnegieendowment.org/2020/09/09/coming-decade-of-arab-decisions-pub-82506.
9 "السلطات الدينية الحكومية في الاقتصادات الريعية وإدارة الاستقلالية الإسلامية" كورتني فرير، ,”
British Journal of Middle Eastern Studies 41 (1), 2020, 42–61,  https://doi.org/10.1080/13530194.2020.1714213.