الرئيسة \  واحة اللقاء  \  اللاقطبية الدولية وسيرورة الثورة السورية

اللاقطبية الدولية وسيرورة الثورة السورية

06.04.2019
شوكت غرز الدين


جيرون
الخميس 4/4/2019
يمرّ النظام الدولي اليوم بحالة اللاقطبية الدولية، وهي حالة تختلف عمّا اعتاده النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتمارس حالة اللاقطبية هذه تأثيرًا كبيرًا على مخرجات وتحولات وأساليب الثورة السورية. وقد مرّ العالم الحديث، منذ الحرب العالمية الثانية، بأربعة أنواع من القطبية الدولية:
مرحلة القطبية الثنائية، أيام الحرب الباردة حتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وتمثلت في القطبين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي السابق.
مرحلة القطبية الأحادية، أيام سقوط الاتحاد السوفييتي وبروز العولمة على الطريقة الأميركية وحرب الخليج الأولى، وتمثلت في الولايات المتحدة الأميركية.
مرحلة القطبية المتعددة، مع بداية الألفية الثالثة والحرب على الإرهاب وحرب الخليج الثانية وحرب أفغانستان، وتمثلت في القطب الأميركي والبريطاني والفرنسي والروسي والصيني أساسًا، وفي تعاونهم بما يخدم مصالحهم. وكمجتمع السحرة في فيلم هاري بوتر الذي لا يهتم إلا بالسحرة أنفسهم ولا يأبه للبشر العاديين، أصبح المجتمع الدولي لا يهتم إلا بالأقطاب ومصالحها، متناسيًا كليًا الدول الصغيرة نسبيًا ومصالح الشعوب المتعددة.
مرحلة اللاقطبية الدولية، وهي المرحلة التي نعيشها الآن، حيث تكثر القوى وتتوزع نقاط التأثير ويتناظر فعل القوى الصغيرة مع فعل القوى الكبيرة، ويتناظر فعل الأقطاب السابقة مع الأقطاب الجديدة، ويتناظر أيضًا مع دولٍ صغيرة ومع تنظيمات جهادية كـ (داعش) و(النصرة) ومع ميليشيات وأحزاب كـ (حزب الله) وفصائل إسلامية سنّية أو شيعية. فيبدو الجميع أقطابًا لتراجع حالة القطبية وغياب تمركزها.
ومما يؤكد أطروحة انعدام القطبية، في سورية، ظهور تنظيمات وفصائل وأفراد كان لهم دور كبير على المسرح السوري، يوازي أحيانًا دور الدول الكبيرة والتحالفات القوية. كما يساند المحرز العلمي هذه الأطروحة أيضًا، من خلال تأكيده على التناظر بين الأفعال الصغيرة والصغيرة جدًا وبين الأفعال الكبيرة والكبيرة جدًا، وتأكيده على “أثر الفراشة”؛ أي على أثر الفاعلية مهما كانت صغيرة، وقول العلم بنظرية الفوضى وبالانتظام الذاتي للفوضى. وبهذا، تفسح حالة انعدام القطبية المجال لبروز فاعلين “صغار” جنبًا إلى جنب مع الفاعلين “الكبار”. وتنفلت الأمور من عقالها، حيث أصبحنا نتساءل عن المُخلص وننتظر من يخلصنا. فمن ذا الذي يوقف كلًا من ترامب وبوتين وأردوغان ونتنياهو وخامنئي والأسد وداعش والنصرة وحزب الله… إلخ، عن الشعب السوري؟! ومن ذا الذي يطبق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالسوريين؟! لا أحد. هذا هو عالم اللاقطبية الدولية.
ومن هنا، يمكن فهم وتفسير إخفاق الشعب السوري في تقرير مصيره. ومن هنا أيضًا يمكن فهم وتفسير عدم تأثير وفاعلية القرارات الدولية التي أقرّها مجلس الأمن بالإجماع. فحالة اللاقطبية الدولية هذه تؤثر تأثيرًا سلبيًا في سيرورة الثورة السورية؛ حيث يتمركز تأثيرها السلبي هذا في مسألتين اثنتين: الأولى هي إضعاف قوة الشعب السوري، في تقرير مصيره (إضعاف مبادئ ويلسون وحق الشعوب في تقرير مصيرها). والثانية هي إضعاف قرارات مجلس الأمن، التي اتخذت بالإجماع، وكانت ذات علاقة بالشأن السوري؛ سواء القرارات الحالية منها في ظل اللاقطبية الدولية كالقرار 2254، أو القديمة أيام القطبية الثنائية كالقرارين 338 و242 المتعلقين بالجولان المحتل، أو القرار 1559 أيام القطبية المتعددة، الذي طبق منه شق خروج الجيش السوري من لبنان، ولم يُطبق شق حل الميليشيات اللبنانية كـ (حزب الله).
وهذا يقودنا إلى استنتاج أن السوريين، رغم أنف تنوع حالات القطبية، لم يقرروا مصيرهم طوال مئة عام، ولم تطبق القرارات الدولية التي تمكنهم من ذلك! وبالتالي، إن اعتماد السوريين على مبادئ عالمية مجردة وقرارات دولية ما هو إلا عبث سياسي من دون جدوى، كما نجده في رهانهم على القرار 2254 وفي التعاطي مع قضية الجولان المحتل بسياق الشرعية الدولية. إذًا في عالم اللاقطبية الدولية يجب على الثورة السورية تعريف نفسها بمصطلحات وطنية، لا بمصطلحات قومية عربية ولا بمصطلحات دينية إسلامية ولا بمصطلحات دولية؛ فنكون أمام واحدة من اثنتين: إما قوة وطنية تؤسس الوطنية السورية وتضمها من جديد، وإما وطنية سورية تنمو بين السوريين فتخلق دولتها بالقوة.
من المفترض -مع اختلاف القطبية الدولية- أن تحصل الشعوب على نتائج مختلفة. ولكن ثمة مفارقة في الوضع السوري تكمن في الحصول على النتائج نفسها، بغض النظر عن اختلاف حالات قطبية النظام الدولي. أي أنه على الرغم من أن إضعاف القرارات الدولية وعدم تطبيقها، قد عاصر حالات مختلفة من القطبية الدولية، فإن استراتيجية السوريين ظلت واحدة وتعتمد تطبيق القرارات الدولية. وعلى الرغم من عدم تمكين الشعب السوري من تقرير مصيره؛ فإن استراتيجية السوريين ظلت نفسها وتعتمد على حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ولكن، من دون أخذ الجديد الذي أتت به حالة اللاقطبية بعين الاعتبار، ما الجديد في حالة اللاقطبية الدولية؟ إن حالات القطبية السابقة: الثنائية والأحادية والمتعددة، لم تسعَ لتقويض حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولم تسعَ لإنهاء مفعول القرارات الدولية. أما حالة اللاقطبية هذه، فإنها تضرب عرض الحائط بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، كما تضرب عرض الحائط بالقرارات الدولية.
واستنادًا إلى ما تقدم؛ يجب على السوريين التوقف عن المطالبة بحقهم في تقرير مصيرهم من النظام الدولي، وانتزاعه بالقوة، والتوقف أيضًا عن اجترار القرارات الدولية التي لن تطبق. وبالتالي عليهم التوجه إلى امتلاك القوة، واستخدامها كوجه آخر للسياسة في ظل انتظارهم لتغير ما في النظام الدولي.
ثمة تشابهٌ لافت للنظر لا يشير أحد إليه، وهو أن هتلر بعد صعوده إلى الحكم في ألمانيا النازية، بدأ سلسلة من التراجع عن المعاهدات والمواثيق الدولية ونقضها، حيث باتت ألمانيا آنذاك في حلٍ من كل ما يثقل كاهلها ويقيد حركتها، وما سياسة ترامب -منذ انتخابه حتى الآن- إلا سياسة الانسحاب من المواثيق الدولية والمعاهدات والاتفاقيات، وما اعترافه بالقدس “عاصمة لإسرائيل”، كما اعترافه بـ “سيادة إسرائيل” على الجولان المحتل، إلا خير دليل على هذا التشابه. وما انسحابه من مجلس حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية واتفاقيات البيئة، وتهديده بالانسحاب من الناتو وحضر السلاح النووي والكيمياوي، إلا تأكيد على هذا التشابه مع السلوك الهتلري؛ وذلك تمهيدًا لإخضاع العالم من جديد لسياسة القطب الواحد بالقوة، فيذهب السوريون في مهب الريح.
وهكذا، يبقى الرهان على قدرة السوريين على استخدام العنف المنظم، ضمن إطار الوطنية السورية التي تحافظ على وجودهم السياسي، في ظل انتظار انتظام دولي جديد، يقدّم السياسة على الحرب، ويقدّم قيمة الإنسان على المواد الأولية، ويقدّم مقولة الشعب على مقولة الجماهير.