الرئيسة \  واحة اللقاء  \  القضية السورية و"فن الممكن"

القضية السورية و"فن الممكن"

10.05.2017
د. طيب تيزيني


الاتحاد
الثلاثاء 9/5/2017
تواجه القضية السورية عواصف كبرى، يراد لها أن تكون قابلة لأي تحول وأية إضافة، يداً بيد مع أية تحولات أخرى شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً من أطراف مختلفة تجد نفسها معنية بهذه القضية. فقد فتحت الأبواب، وراحت الأطراف كلها المعنية وغير المعنية تدلي بدلوها. ونحن نعلم أن مواجهة المشكلات السياسية الراهنة تقترب من اللامعقول، بحيث تضعنا أمام إشكالات جديدة. وهذا نمط ملفق من سياسة من الممكن، أي من التعريف المُجمع عليه أساساً بمثابته الشواطئ التي على السياسة أن تتوقف عندها للوصول إلى "قاسم مشترك" بين المعنيين الباحثين عن حلول للقضية المُتنازع عليها، ولاكتشاف الاحتمال الأكثر ترجيحاً لتقريب الحلّ الممكن والعادل بالنسبة لأصحاب العلاقة الأصليين.
وفي الحالة التي تتصل هنا بموضوعنا "المشكلة السورية"، يلاحظ الباحث المدقق أن اتجاهاً أحادي الفهم والاستيعاب يسيطر ويحاول مَن وراءه أن يقدم حلاً زائفاً للمشكلة بعيداً عن خصوصيتها وأسسها. وهكذا يخرج أطراف من الملتفِّين حول المشكلة إياها على طبيعة الحل بوصفه حلاً محتملاً، ضمن التعريف المقدم للسياسة بصفتها بحثاً عن الممكن، دونما الخروج من بنيته السياسية واحتمالاتها الممكنة. وحيث يهيمن هذا الموقف الاحتمالي للمسألة بتحديده المضبوط بالإمكان، فإن أطرافاً يلجأون إلى اللعب على عملية الوصول إلى الحل الممكن، ربما لجعله أبعد منالاً بكثير.
ها هنا، ينبغي ضبط ذلك الممكن بالحيثيات التي تتلبسها القضية السورية الراهنة، التي يبرز في مقدمتها ما يقدم لنا تعريفاً. أما هذا الأخير، فيفصح عن نفسه بالضبط في ذلك "الضبط"، الذي عبرت عنه سوريا منذ عصور من التراجع وافتقاد ما يجعلها سوريا التاريخية، ونعني التعريف الحاسم لها، وهو: كونها واحدة أرضاً وشعباً. فالتنوع العرقي والطائفي والمذهبي والديني.. إلخ، إنما يعبر عن هويتها التاريخية المستديمة، مهما حدث فيها من خلل من قبل طرف أو آخر. فالأرض السورية اتسمت في تاريخها الطويل بتلك الهوية، على رغم حدوث اختراقات في مرحلة أو أخرى ضمن هذا التاريخ. ومن هنا، فإن هذه الاختراقات مثلت خروجاً فاضحاً، أي عدوانياً، وهذا برز خصوصاً مع ظهور المشاريع الاستعمارية، ومنها مشروع "سايكس- بيكو"، الذي عمل منتجوه على إخضاع سوريا لمصالحهم الاستعمارية المريبة. والشيء الملفت المثير أن أطرافاً جديدة من المشاريع الاستعمارية الراهنة تجد في ذلك المشروع إرثاً مهماً تعمل على بعثه وإعادة بنائه بصيغة أو بأخرى، خدمة لمصالحهم الإمبريالية الجشعة، وذلك بمعونة أطراف من الداخل السوري، كما من المحيط العربي، عبر عمليات اختراق جديدة.
ونحن الآن نعيش تلك الحالة الجديدة، مستندة على "سايكس- بيكو"، وما يدخل في العالم العربي من حالات قريبة أو مماثلة. ونشدد على هذا العامل الجديد، الخارجي، في مرحلتنا المعيشة المتسمة بالتصدع العربي وبتفككه الهائل. لقد وظفت ظاهرات جديدة، وظاهرة "داعش" من ضمنها، باتجاه تفكيك هذا العالم العربي، وسيصبح هذا الأمر صريحاً واضحاً، حين ينظر من خلاله إلى البنية الوطنية في كل بلد عربي. فهذه البنية يعاد بناؤها وتوظيفها في خدمة ذلك التصدع تحت راية ليست جديدة، ولكن جامحة في غلوها وانتشارها في الأوساط العربية في معظمها، فيما نرى.
وكان على سوريا -في هذه الحال- أن تكون الضحية الأولى. إنها ليست مصادفة أن تنتج هذه الحالة العربية أولاً، وأن تحقق انتصارات ليست سهلة. ثانياً: فباسم "داعش" وما شابهه أو ماثله، "انبثق عصر عربي" ينذر بالحروب الطائفية وبالفساد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وغيره، بحيث راح ذلك يفضي إلى ترسيخ ما اصطلحنا عليه بـ"قانون الاستبداد الرباعي" القائم على الاستئثار بالسلطة والثروة والمرجعية المجتمعية مع القيادة السياسية المرتبطة بالدولة الفاشية الفاشلة.
لقد استخدمت سياسية "الممكن" لمشروع التفكيك للوطن العربي، بمساعدة بلدان تحمل مشاريع طائفية واستعمارية، ترى في سوريا "لقطة" جديرة بالتفكيك والتدمير باسم مواقف تبدو "حنونة" على سوريا، وهي تنزف دماً وحقداً وتصميماً على الوطن الصغير، إضافة إلى الوطن العربي الكبير. وإن ما حدث مؤخراً من خطة "جديدة" لإنهاء الحرب في سوريا لشهر أو أشهر، إنما هو أمر لا يمكن تخبئته وراء الشمس. وبدلاً من ذلك، نجد أمامنا أمراً واحداً هو الحل ويتمثل في إخراج كل القوى الغريبة، والبدء بالتصالح بين الأيدي السورية الوطنية كلها، وغير ذلك لا يعني سوى السير على طريق الندامة.
---------------
* أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق