الرئيسة \  مشاركات  \  القدس معركة وعي لا معركة سلاح

القدس معركة وعي لا معركة سلاح

03.08.2017
د. طارق ليساوي




في خضم توالي الأحداث الراديكالية، التي اجتاحت المنطقة العربية ، والتي من أهم عناوينها حصار قطر و التغيير السياسي في هرم السلطة داخل الأسرة الحاكمة في السعودية، و ماسبق ذلك، من تجييش لوسائل الإعلام ضد حركة حماس و الإخوان المسلمين، والانصياع المكشوف من قبل العديد من الحكومات العربية و خاصة الخليجية للإرادة الأمريكية والإسرائيلية..في ظل كل هذه الأجواء المشحونة يفاجئ العالم العربي و الإسلامي بإغلاق المسجد الأقصى و منع الأذان به،من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي ..
ولعل هذا السلوك الإسرائيلي هو نتاج لتحليل أبعاد الأحداث السالفة الذكر، و أن الشعوب و الحكومات العربية لا يعنيها ما يحدث على أرض فلسطين، بل أصبحت بعض الأصوات ترتفع من داخل السعودية وغيرها معلنة بأن العدو هو حماس و ليس إسرائيل ...و هو ما اعتبرته إسرائيل فرصة مواتية لتنفيذ أجندتها في المسجد الأقصى ..و العمل على فرض سياسة الأمر الواقع و إقامة الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى..
و الواقع ان ما حدث في القدس يقتضي منا جميعا تحليله و فهم أبعاده، و ذلك لسببين :
الأول–أن الواقع العربي و الإسلامي بلغ درجة من العجز لا تحتمل بدليل أن أول القبلتين و ثالث الحرمين و مسرى رسول الله محمد صل الله عليه وسلم يتم غلقه و منع الصلاة به ، في ظل وهن عربي و إسلامي غير مسبوق..
الثاني- الحرب العشواء على الإخوان المسلمين وحماس الغرض منه تصفية القضية الفلسطينية وعلى رأس ذلك القدس الشريف ...
لكن بالرغم من هذا التكالب و الدعم الضمني للكيان الصهيوني من قبل حكومات باعت نفسها للشيطان مقابل الحفاظ على المناصب و المكاسب، إلا أن الشعب الفلسطيني أثبت مرة أخرى أنه يستحق و صف "شعب الجبارين" ، فأهل القدس و الناصرة و غيرها دافعوا عن المسجد الأقصى ببطولة لانستغربها على هذا الشعب الأبي الذي خانه الأقارب و الإخوة الأشقاء ..
و ما يثلج الصدر بعد انتصار إرادة المقدسيين على إرادة الصهاينة وحلفاءهم ، أن شباب فلسطين و شيبها واعون بحجم المخاطر التي تحاك ضدهم ، ولعل ذلك نابع من أن القدس شكلت و لاتزال تشكل في الوجدان الديني أهم منطقة في العالم،  فجمال القدس و عظمتها لم تستمدهما من بناياتها و لا جغرافيتها المتميزة أو موقعها الجيو-ستراتيجي، و إنما نابعة من كونها مهد لكل الديانات السماوية فهي الأرض المباركة التي بنا بها أدم عليه السلام  ثاني مسجد بعد البيت الحرام، و هي المدينة التي هاجر إليها الخليل إبراهيم عليه السلام و هي الأرض التي اشتاق موسى عليه السلام لدخولها و قومه بعد الخروج من مصر،و ما دخلوها إلا في عهد داوود عليه السلام ..وهي المدينة التي ولد بها المسيح ابن مريم ..وبالاقصى الشريف صلى محمد عليه السلام بكل الانبياء و منها صعد إلى سدرة المنتهى..
هذا الإرث الديني للقدس جعل فلسطين أو أرض كنعان تتعرض للعديد من الغزوات الكبيرة .كغزو الفلسطينيين لساحل فلسطين أو كغزو الآشوريين و البابليين و الفرس و المقدونيين تم الرومان و ذلك قبل ميلاد المسيح عليه السلام، ثم غزوات الصليبيين و التتار في القرون الوسطى و بعد الفتح الإسلامي للقدس ..
ومن مؤشرات المكانة السامقة للقدس هو تضارب الروايات التاريخية حولها لاسيما في أوساط الباحثين الأوربيين و المستشرقين الذين عملوا منذ القرون الوسطى على تزييف الحقائق ودس روايات مجانبة للواقع التاريخي للمدينة و محركهم في ذلك:
1- العداء للإسلام و2- سيطرة الأساطير التوراتية على وجدانهم و3- تحريض شعوبهم على استعمار هذه الأرض و السيطرة عليها و هو ما تحقق فعلا من خلال الحملات الصليبية ،و تتحقق في عصرنا هذا بالاحتلال الصهيوني لعموم فلسطين و القدس الشريف ...
ولعل تركيز المقال على هذه المعطيات التاريخية و الجانب الديني هو عنصر أساسي في فهم الصراع العربي - الإسلامي من جهة و الصهيوني -الصليبي من جهة أخرى على أرض فلسطين عامة والقدس خاصة ، فالعرب و المسلمين تدعمهم الحقائق التاريخية منذ ما قبل ميلاد المسيح بآلاف السنين فمن استوطن فلسطين قبل أن يدخلها النبي إبراهيم عليه السلام، بعدما خرج من العراق هو و ابن أخيه سيدنا لوط في عهد الملك الطاغية "النمرود"، متجها إلى فلسطين و التي كان يحكمها الملك العربي "ملكي صادق"، هم العرب الذين هاجروا إليها من الجزيرة العربية ، ففلسطين لم تكن يوما أرض بلا شعب فأول من عمرها هم العرب و هو ما تدعمه الدلائل التاريخية..
بل إن ما تزخر به الأساطير التوراتية هو مجانب للصواب و اليهود لم يعمرو فلسطين إلا في فترات تاريخية متقطعة، و القران الكريم يعطي للمسلم سرد تاريخي لمراحل الوجود اليهودي في فلسطين..و لما كان المقال بطبيعته لا يسمح بسرد كل التفاصيل حول تاريخ فلسطين و القدس ..فان جوهر مايسعى إليه هذا المقال هو دفع المواطن العربي إلى قراءة تاريخ فلسطين بتمعن وعبر مصادر متعددة، تحترم مبدأ الموضوعية التاريخية و التسلسل الكرونولوجي للاحداث بعيدا عن الذاتية والهوى السياسي أو العقدي ،  و تجنب الرواية الغربية والرواية الصهيونية التي زيفت عن عمد العديد من الحقائق التاريخية وصورت الباطل حقا و الحق باطلا ..
و للأسف خروج من يقول بأن القدس ليست في سلم أولوياتنا  كمسلمين وعرب هو نتاج لعملية غسيل المخ و التي نجح فيها الصهاينة كما نجحوا في عملية الغسل السياسي و الاقتصادي و التاريخي و ذلك بتواطؤ مع أنظمة سياسية عميلة ضيعت الأوطان مقابل الحفاظ على الكراسي و المكاسب..
فلسطين والقدس هي قضية كل مسلمي العالم بل قضية كل الأحرار، و الحق العربي و الإسلامي لا يمكن إنكاره و من يفكر في غير ذلك فهو ينفذ أجندة الصهيونية ، لذلك المعركة حول القدس تحديدا ليست معركة يحسمها السلاح و إنما هي معركة وعي و إدراك لطبيعة النزاع فهو نزاع ديني بين عقيدتين إحداهما لازالت تحتفظ بصفائها الرباني، و أخرى حرفت و تحكم فيها الهوى البشري ، فنصرة القدس و الانتصار لها هو بخلاصة انتصار للعدل و للحق، و للأمل في غد  تخرج فيه الإنسانية من ظلم الاستبداد و الهيمنة الاقتصادية والسياسية إلى عدل الإسلام..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
*إعلامي مغربي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي .