الرئيسة \  واحة اللقاء  \  العالم على وقع الانسحاب الأميركي.. عود على بدء

العالم على وقع الانسحاب الأميركي.. عود على بدء

21.02.2019
عمر علي البدوي


العرب اللندنية
الاربعاء 20/2/2019
وكأن المناخ العالمي يسترجع حالة سياسية خبِرها من قبل، سيولة في الأحداث وتشابك للمواقف بحثاً عن درجة من الاستقرار التي ستطبع الحقبة التالية من تاريخ الكون وسيرة البشرية، بعض من ملامح اليوم تشبه تلك الأجواء التي عصفت بالعالم نهاية الحرب العالمية الثانية، مروراً بالحرب الباردة التي كانت آخر مناسبات المنافسة على سدة العالم، انتهاء بشكل سياسي انفردت فيه الولايات المتحدة بقيادة العالم والتأثير في أدق تفاصيله.
لكن ذلك يتغير الآن، انطلاقاً من تواضع قوة الولايات المتحدة وأعراضها الانسحابية في عدد من المواقع والمواضع التي كانت خلال العقود السالفة محلاً تقليدياً لنفوذها، وملعبا مريحا لسياساتها وهي تعزز دورها وتضبط إيقاع العالم واتجاهاته عبرها.
كما أن استعادة روسيا- وهي آخر من قاوم الانفراد الأميركي- لبعض دورها وحضورها في محيطها الحيوي والشرق الأوسط وحوض أميركا الجنوبي، يقترب من مشابهة فترة سابقة، ورغم أنها تعاني بعض الوهن في اقتصادها وقدراتها التنافسية بما لا يرقى إلى مقارعة الولايات المتحدة، لكن روسيا فلاديمير بوتين تحظى بثقة الكثير من اللاعبين في عدد من الملفات، في ما تخسر واشنطن، بالمقابل، المزيد من حلفائها وأصدقائها.
حتى أن الفصائل الفلسطينية بحثت على طاولة في موسكو خياراتها، ثقة في روسيا وعدالتها الأقل انحيازاً من الولايات المتحدة التي جاهرت بتحجيم الحقوق الفلسطينية لصالح المزيد من الحظوة لتلب أبيب، وحاولت عبر مؤتمر وارسو تقديم اقتراحاتها الجائرة في الملف الفلسطيني، لولا أن السلطة الفلسطينية وسلة الفصائل المختلفة اختارت أن تميل إلى موسكو واجتمعت بوزير الخارجية سيرجي لافروف الذي هاجم نية واشنطن حصار الفلسطينيين وحرمانهم حقوقهم.
بديلاً عن روسيا ثمة لاعبين جدد، يملكون مقومات أكثر تنافسية من موسكو، وسيكون لهم دور أكثر فاعلية في تشكيل وتعديل الواقع السياسي العالمي، من ذلك التنين الصيني الذي استيقظت عنقاؤه، وسجلت قدراته الاقتصادية قفزات هائلة دفعت الجانب الغربي من العالم لتحسس رقبته مستشعراً هذا الخطر الداهم والقائم.
كما أن الهند بانطلاقتها الاقتصادية، واليابان التي أخذت تتململ من واقعها الاستسلامي وبدأت في تحريك بعض ما يقيد حركتها في دستورها، لاسيما وأن النفس الحمائي الذي تمارسه الولايات المتحدة اليوم يحفزها للعمل بشكل منفرد وتصميم حركتها استجابة لحاجاتها وبحث بدائلها.
ماذا عن أوروبا التي كانت في حقبة ما تنفض عنها غبار المعارك وترفع عن كاهلها أعباء ومتاعب حربين عالميتين، وكانت الولايات المتحدة وقتئذ تشبه لقطة المصور كيفين كارتر التي جسدت مجاعة عام 1993 في السودان، لنسر يرقب موت طفلة ناحلة الجسد لينقض عليها.
تعاني أوروبا اليوم من متاعب جمّة، ليس آخرها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، رغم عنت التفاصيل في هذا الخروج المأزق، وتواجه أوروبا ظروفها المتغيرة فيما لا تهتم واشنطن الترامبية سوى بزيادة تكاليف هذه المشاق والظروف غير السارّة.
تخرج القوات الأميركية من سوريا لكنها تفكر في إرسال 5000 مجند حسب ما كشفته مذكرة مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، جون بولتون، بشأن نوايا الولايات المتحدة تجاه فنزويلا.
تعود القضية الكردية إلى نقطة الصفر، عارية إلا من الوعود المرسلة، وتكثف واشنطن من وجودها في العراق مجدداً بعد أن بحثت عن فرص انسحاب نهائي يطوي هذا الملف العالق في أروقتها.
تستنزف واشنطن الكثير من طاقتها واهتمامها في الانشغالات الداخلية، وزاد تسنّم ترامب لمقاليد حكم البلاد في توريطها بالمزيد من الانكفاء إلى الداخل، أكثر من ذلك باستخدام الملفات الخارجية في محرقة الاستهلاك والمقايضات المحلية، الأمر الذي أثّر على فعالية الدور الأميركي وأربك حسابات الحلفاء وترتيباتهم وخلق ثغرات عديدة في جدار الواقع السياسي للعالم.
تكابد إسرائيل لنيل بعض الاعتراف من عواصم عربية كان يوما حلما سابحا في فضاء المستحيل، ويسوّق بنيامين نتانياهو -لأغراض انتخابية بحتة- للتقارب مع تلك العواصم، لكن الواقع لا يؤشر إلى احتباس المسألة الفلسطينية في عثرتها دون أفق يلمع بنهاية سعيدة.
وكأن قدر هذه المنطقة، والعالم أجمع، أن يستمر عالقاً في عثراته، متوقفاً عن التقدم لطي متاعبه المستمرة، واقفا بدون حراك إلا اجترار ماضيه القريب والبعيد باستمرار.
ماذا يدور في بالك وأنت تقرأ خبر اللبناني جورج زريق، الذي توفي في باحة مدرسة بقضاء الكورة شمالي لبنان، وقد أضرم النار في نفسه بعد أن رفضت المدرسة تقديم إفادة له حتى ينقل ابنته إلى مدرسة أخرى.
وتستعيد بين سطوره بعض ما حدث وانطبع على السنوات التالية لهبّة 2011 الشعبية منذ حوّل التونسي محمد البوعزيزي جسده فتيلاً لاشتعال الأوضاع وانفلاتها من عقالها.
يحدث الأمر نفسه مع انتفاضة الشعب السوداني ضد جمود الأوضاع، وتقابلها نفس ردة الفعل من قبل الجهاز الحكومي للرئيس البشير، وكأن شيئاً لم يتغير، ووعياً لم ينبت، ومرحلة مختلفة لم تبدأ.