الرئيسة \  تقارير  \  العالم الافتراضي أفقدنا الإحساس

العالم الافتراضي أفقدنا الإحساس

09.12.2021
جوانا نوفاك

                          
الشرق الاوسط
الاربعاء 8/12/2021
عندما أعلن مارك زوكربيرغ عن تغيير اسم “فيسبوك” إلى “ميتا” أواخر الشهر الماضي، في خطابه بوصفه “مؤسس” منصة التواصل الشهيرة، كنت مشغولاً حينها بمكالمة فيديو مع مجموعة الكُتاب الذين أتعامل معهم لمناقشة أمور تتعلق بالمتع الحسية لمهنتنا مثل فوائد الكتابة باليد، وحبنا لجمال دفاتر الكتابة، وغيرها من الموضوعات المفضلة لدينا. اللافت أن ثلاثة منا أفادوا بأنهم امتلكوا خمس آلات كاتبة، وأنهم لا يملكون حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي. لكننا هناك في عالم “ميتافيرس” الجديد نتوق إلى الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يقدمه لنا ذلك العالم الجديد، تجربة اللمس.
من خلال الواقع الافتراضي والمعزز (كما هو الحال أيضاً في نظارات ريبان ستوريز الذكية)، تهدف تقنية “ميتا” إلى تغيير طريقة عيشنا وكيفية تواصلنا مع الأصدقاء والعائلة. فباستثناء طقوسها الخاصة بجمع الناس، تقدم تقنية “ميتا” فصلاً جديداً عن الإنسان بإزالة أجسادنا من المعادلة.
على سبيل المثال، لن أخوض بلطف في عام “ميتافيرس” الجديد، ليس لأنني مناهض للتكنولوجيا (فأنا لست كذلك) أو لأنني مرتبط بشكل غير معقول بمتعة أقلام الحبر الهلامي والكتابة باليد على الورق (قد أكون كذلك فعلاً). لكن لأنه بعد معاناتي من مرض فقدان الشهية والشره المرضي لأكثر من 20 عاماً، فإن آخر شيء أريده هو التكنولوجيا التي تبعدني عن جسدي. وقد كتب الفيلسوف ريتشارد كيرني يقول: “إذا فقدنا الاتصال بأنفسنا، فسنفقد الاتصال بالعالم، ولن يكون هناك اتصال ملموس، ولا صدى بين الذات والآخر”.
لقد وضعتنا أشهر من الإغلاق وكوكتيلات “زووم” و”دابس” في أزمة اللمس. فكتب مثل “اللمس: استعادة أحاسيسنا الأكثر حيوية” للكاتب كيرني، وكتاب سوشما سوبرامانيان “كيف تشعر: العلم ومعنى اللمس”، اللذين نشرا العام الجاري، تتعامل بشكل مباشر مع هذه الحاجة الأساسية. فقد طورنا لغة تشبه اللمس تربط البقاء على قيد الحياة باللمس. وهناك مقالات حول “الجوع للمس” و”لمس الجوع” التي تعكس مدى أهمية هذا الاتصال الحسي. لذلك فإن اللمس أمر أساسي لإنسانيتنا، فهو أول شعور نطوره.
يدرك مؤسسو العالم الافتراضي ذلك أيضاً ويواجهون بشكل متزايد الحاجة إلى اللمس ويطورون أساليب جديدة لإعادة خلقها. فهناك “مخلوق هابتيك” الذي ابتدعه ستيف يوهان، وهو كائن آلي كسل يتحرك ويهتز، ويؤثر على الحالة العاطفية للإنسان الذي يربيه ويلمسه. في هذا السياق، يعمل باحثو مركز “Texas A&M” على تطوير شاشات تعمل باللمس ذات “أقصى تأثير ملموس” لتجعلك تشعر بالفرق بين أوراق الساتين والورق عبر الإنترنت. ووجد الباحثون في جامعة “جونز هوبكنز” أن دمج ردود الفعل اللمسية في الأطراف العلوية الصناعية سهل على مبتوري الأطراف استخدامها.
وفي هذا الصدد، فقد كشفت تيفاني فيلد، مديرة معهد أبحاث اللمس بجامعة ميامي التي تدرس اللمس منذ أكثر من أربعة عقود، من خلال بحثها عن المزيد من أهمية اللمس منذ المراحل الأولى لحياة الإنسان، وكشفت أن تدليك الحمل يقلل من انخفاض الوزن عند الولادة (وكذلك اكتئاب ما بعد الولادة). ويؤدي تدليك أطراف الأطفال حديثي الولادة ذوي الضغط المعتدل إلى زيادة وزنهم بنسبة 47 في المائة أسرع من غيرهم. فاللمس ينتج هرمون “أوكسيتوسين”، أو “هرمون الدلال” الذي يربط الوالدين بأطفالهم حديثي الولادة خلال فترة “التلامس الجلدي”. واللمس كذلك يحسن الانتباه والأداء الكمي (السرعة والدقة في مسائل الرياضيات). وعند الأمهات المراهقات اللائي يعانين من الاكتئاب، يقلل التدليك من سلوكيات القلق. وعند المرضى الذين يعانون من فيروس التهاب الكبد الوبائي، يؤدي العلاج بالتدليك إلى زيادة الخلايا الطبيعية القاتلة. وفقدان الشهية، والتوحد، وآلام الظهر، والسرطان ومتلازمة التعب المزمن والألم العضلي الليفي والتصلب المتعدد واضطراب ما بعد الصدمة جميعها تستجيب للمس.
حتى ضحايا الاعتداء الجنسي يستفيدون من اللمس العلاجي. فبعد شهر من التدليك مرتين في الأسبوع، عانت النساء اللائي خضعن لأبحاث في “معهد أبحاث اللمس” من اكتئاب وقلق أقل من غيرهن، وانخفضت مستويات الكورتيزول لديهن. وأفادت النساء في مجموعة التحكم بعدم التدليك “بموقف سلبي متزايد تجاه اللمس”.
وعندما قرأت عن عمل ليزا هولستي، الباحثة في ألم حديثي الولادة، وكارون ماكلين، باحثة اللمس، فوجئت بمدى تأثري بتعلم تقنية اللمس. وقد ابتكرتا خلال فترة الدراسة عام 2020، جهازاً أطلقتا عليه “كالمر”، أي المهدئ، وهو عبارة عن حاضنة مستطيلة الشكل مزودة بمنفاخ هوائي، ومضخم صوت، وجهاز تحكم دقيق يكرر معدل تنفس الأم، وضربات القلب واللمس للأطفال حديثي الولادة في وحدة العناية المركزة. وقد لوحظ أن “وقت التلامس مع الجلد” أو “رعاية الرضع”، عندما يتم وضع الطفل على صدر الأم بعد الولادة، فإن ذلك يخفف من آلام حديثي الولادة. إذا لم يكن أحد الوالدين حاضراً أو كانت الممرضة غير موجودة لتهدئة الطفل، مثل سحب الدم، فإن ذلك الجهاز (كالمر) يقدم بديلاً للتفاعل باللمس البشري، وهو ما وصفته الأم التي شاركت في الدراسة بـ”النسخة الاحتياطية” للأم.
من المسلَّم به أنني كنت ضد اللمس معظم حياتي. (عرفت أشخاصاً آخرين يعانون من اضطرابات الأكل، وهم أيضاً أفضل أصدقائي الذين لا يتأثرون باللمس، ويشتكون من إزعاج عناق أعياد الميلاد). وقد تغير ذلك عندما أنجبت طفلاً واكتشفت كيف شعرت بوزن ابني على صدري كأنه أعظم حب في العالم. فلا عجب إذن أن هندسة الحاسة الأولى مهمة للغاية.
ورغم أن التوسع في استخدام “ميتافيرس” قد يحفز لإيجاد فارق ملحوظ مثلما حدث في الذكاء الصناعي، وفي “فيسبوك” لتطوير مزيد من عمليات المحاكاة الحسية الجسدية، فإنني أتشكك في القيم التي ستوجه عملهم. هل سيكونون أخلاقيين مثل الدكتورة هولستي، والدكتورة ماكلين، اللتين استغرقتا 10 سنوات لتجربة ثلاثة نماذج أولية لمسية مصممة “لتكرار الوجود الأمومي وليس استبداله”؟
هل ستكون شركة زوكربيرغ حساسة بالقدر نفسه لمشاعر الانفصال أو عدم التجسد لدى المستخدمين عند تزويدهم بتقنيات حسية مثل “ReSkin”، مع “وحدات الإحساس باللمس القابلة للتطوير وغير المكلفة”؟
تشير “ميتا” إلى استثمار زوكربيرغ في “الإنترنت المجسد”، لكنها في النهاية تقنية تفرق بيننا، وتجعلنا أكثر نفوراً من أجسادنا ومن بعضنا. فقد أدى الانفصال عن جسدي إلى تغذية الكراهية الذاتية والكمال اللذين سهّلا علي اضطرابات الأكل. نحن لسنا بحاجة لاستبدال الصور المجسمة و”أفاتار” بأجسادنا. نحن بحاجة إلى رعاية حاسة اللمس لدينا، نشعر بالعناق الذي نعرفه. بعبارة أخرى، نحن بحاجة لأن نشعر بمتعة اللمس التي تشعرك بأنك لا تزال على قيد الحياة.
* خدمة “نيويورك تايمز”