الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الصراع على مستقبل إيران!

الصراع على مستقبل إيران!

18.12.2018
حسن فحص


القدس العربي
الاثنين 17/12/2018
يمكن القول إن السياسة الخارجية الإيرانية بقيت بمعزل إلى حد كبير عن التجاذبات الداخلية وصراعات السلطة بين القوى السياسية، وكانت دائما محكومة بالرؤية الاستراتيجية للنظام، ودوره في المنطقة، الاستراتيجية التي بدأت شبه عفوية مع انتصار الثورة عام 1979 تحت شعار "تصدير الثورة"، قائمة على نوع من الغرور بما حققه الإيرانيون ضد النظام الملكي، وتطورت هذه الاستراتيجية لتأخذ أبعادا أكثر انسجاما مع متطلبات كل مرحلة، والأوضاع الإقليمية المستجدة، لكنها تدور حول محور أساس هو دور وموقع إيران في المعادلات الإقليمية، وحضورها على الساحة الدولية، اي محاولة العودة إلى الرؤية الاستراتيجية التي وضعها النظام الملكي الشاهنشاهي، الذي أطاحت به الثورة مع محاولة أسلمتها وإدخال تعديلات لا تمس الجوهر.
في المقابل، كانت الساحة الداخلية تشهد حالة من الحيوية والصراعات بين القوى والشخصيات المؤثرة في الثورة والنظام، حتى في مرحلة وجود شخصية كاريزمية قيادية مثل مؤسس النظام الإمام الخميني، الذي شهدت مرحلة قيادته مسار تأكيد إسلامية الثورة والنظام على حساب كل القوى الأخرى التي كانت شريكة فيها، وليست معركة إخراج القوى الليبرالية ـ الإسلامية أو القومية- الدينية بزعامة رئيس الحكومة الانتقالية مهدي بازركان ويدالله سحابي وفريقيهما من السلطة والإدارة لحساب التيار الديني، إضافة إلى إخراج وتحجيم كل الأصوات الأخرى التي تتعارض مع توجهات هذا التيار. وقد ساهم أول رئيس للجمهورية أبو الحسن بني صدر في تقديم الذريعة والمسوغ الأساس للتيار الديني في إحكام قبضته وبسط سيطرته على مفاصل الدولة والنظام، عندما دخل في معركة مجانية متعجلة مع المؤسسة الدينية التي أطاحت به وانقلبت على كل الشعارات المؤسسة للثورة وأحكمت سيطرتها على كل مفاصل إيران.
استقرار السلطة في يد التيار الديني، نقل الصراع على السلطة إلى داخل هذه المؤسسة، وقد بدأ أول الأمر على شكل اختلاف في الرؤى حول إدارة الدولة والاستمرار في إبقاء الثورة وآلياتها في السلطة حية وقائمة، وقد برزت مؤشرات هذا الصراع خلال تولي المرشد الحالي آية الله علي خامنئي لمنصب رئاسة الجمهورية، الذي دخل في ولايته الثانية في معركة إزاحة مير حسين موسوي من منصب رئاسة الوزراء، على خلفية الخلاف على آلية إدارة الدولة والاقتصاد الذي كان يتحكم به القطاع العام والدولة التي كانت تخوض حربا مع النظام العراقي بقيادة صدام حسين، وتخضع لحصار اقتصادي دولي. هذه الخلافات دفعت أو أجبرت الخميني للتدخل المباشر لصالح رئيس الوزراء على حساب رئيس الجمهورية، ما أعاد تفجير أزمة العلاقة بين هاتين الرئاستين، التي بدأت بالتبلور منذ أيام بني صدر، الذي رفض أن يكون موقع رئاسة الجمهورية مجرد "اداة" للتوقيع على قرارات رئاسة الوزراء.
وإذا ما كان العقد الأول من عمر الثورة الإيرانية ونظامها محكوما بوجود المؤسس وحضوره الطاغي على الدولة والقوى السياسية ورسم السياسات وحدود الصراعات، إلا أن المتابع باستطاعته أن يقسم السنوات اللاحقة من عمر الثورة بعد رحيل المؤسس، بناء على دور وموقع رئاسة الجمهورية في تركيبة السلطة والنظام، خصوصا بعد إدخال تعديلات دستورية على صلاحيات هذا الموقع، وإلغاء منصب رئاسة الوزراء. انطلاقا من هذا، فإن المراحل السياسية في إيران موزعة على أربع مراحل حتى الآن، كل واحدة من ثماني سنوات هي عمر حكومة من تولى رئاسة الجمهورية، وهي موزعة على النحو التالي:
رئاسة الشيخ هاشمي رفسنجاني، الذي وصل بالتزامن مع تولي سلفه في الرئاسة خامنئي منصب ولي الفقيه وقيادة الثورة، وهي مرحلة شهدت تعايشا وتقاسما للسلطات ومراكز القرار، بسبب ضرورات المرحلة الانتقالية التي تلت رحيل المؤسس، ورفعت شعار إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي والصناعة بإيران بعد حرب استمرت لثمانية عقود. وهي المرحلة التي شهدت أيضا التأسيس، وبرعاية من رفسنجاني لوصول التيار الإصلاحي الذي بدأ بالإعلان عن وجوده بشكل واضح وقوي، وبات أكثر جرأة في تثبيت حضوره في الحياة السياسية.
المرحلة المقبلة قد تفرض على القوى السياسية الإيرانية العمل لإنتاج خطاب سياسي يلبي تطلعات الشارع الإيراني
رئاسة السيد محمد خاتمي، الذي استطاع تحقيق أول خرق في سلطة التيار المحافظ الاصولي، الذي سيطر على السلطة والنظام والثورة منذ التأسيس مرورا بعهد رفسنجاني، وقدّم هذا التيار اطروحته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي استنفرت المحافظين ودفعتهم لبذل كل ما لديهم من قوة لعرقلة وإفشال هذا التوجيه. والعمل على استعادة زمام المبادرة مرة جديدة، خصوصا بعد خسارتهم لموقعي السلطتين التنفيذية والتشريعية، وقد استطاع المحافظون التأسيس لعودتهم من خلال توظيف السلطات الرقابية (مجلس صيانة الدستور والسلطة القضائية) وفتح الطريق لوصول ممثل عنه إلى السلطة التنفيذية واستعادة السلطة التشريعية.
رئاسة محمود أحمدي نجاد، الذي احتل رأس الهرم في السلطة التنفيذية، مستفيدا أساسا من دعم المرشد، ومن الصراع الذي نشب بين أقطاب التيار المحافظ ومعركتهم الداخلية للوصول إلى هذا الموقع، إضافة إلى عجز التيار الإصلاحي عن تقديم شخصية كاريزمية قادرة على إقناع الشارع والناخب كما فعل خاتمي، إضافة إلى مسار، توضح لاحقا داخل مراكز القرار المحافظة، بإنهاء نفوذ الشيخ رفسنجاني في النظام وتحجيم دوره. ويمكن القول إن وصول احمدي نجاد جاء من خارج مراكز القرار المحافظة، واستطاع أن يؤثر سلبا على الاستراتيجية التي وضعتها قيادات هذا التيار لاستعادة السلطة والإمساك بالشارع الشعبي بعد نجاحهم في زعزعة مصداقية التيار الاصلاحي في التأثير، إلا أن الثمن الذي دفعه المحافظون بسبب سياسات وإدارة احمدي نجاد اسست للكثير من الأزمات التي تعاني منها إيران، وصولا لفتح الطريق لانتقال موقع الرئاسة إلى دائرة اقرب إلى تأثيرات رفسنجاني الاعتدالية ولا يملكون التأثير الكامل عليها.
رئاسة الشيخ حسن روحاني، شكّلت مرحلة لمحاولة النظام لملمة الآثار التخريبية الناتجة عن رئاسة أحمدي نجاد على الصعيدين الداخلي ـ الاقتصادي والخارجي، إلا أنه على الرغم من الإنجازات التي حققها روحاني، إن كان في ضبط الانهيار الاقتصادي، أم في توقيع الاتفاق النووي مع المجتمع الدولي، إلا أن التيار المحافظ توجس من طموحات الخطاب المعتدل الذي مثله روحاني، التأسيس لمرحلة ما بعد المرشد وان يكون الشخصية الاكثر حظا ليكون خليفة للمرشد، فكان أن عمد إلى استراتيجية إفشال سياسات روحاني الداخلية والانفتاح الخارجي.
وإذا ما كانت كل مرحلة من هذه المراحل تستحق الحديث بكثير من التوسع كل على حدة، إلا أنها مجتمعة تكشف عما يمكن أن يكون حقيقة، وهو فشل التيار المحافظ في الاحتفاظ بمواقعه داخل السلطة على رأس السلطات المنتخبة، وأنه برع في سياسة الإفشال والعرقلة من دون أن يقدم رؤية قادرة على القيادة والاستمرار وإقناع الشارع الشعبي، في حين لم تستطع القوى الإصلاحية من تحقيق خرق حقيقي في آلية النظام العميقة وإجباره على تغيير سياساته وأساليب تعاطيه مع الأمور، في حين أن الرؤية المعتدلة التي يمثلها روحاني حاليا قد وضعت على سكة الفشل أيضا، من دون أن تكون هناك رؤية واضحة لدى كل الاطراف الايرانية لمستقبل النظام بعيدا عن سياسة اجتراح العدو واختراعه من أجل استمرار إحكام قبضته على السلطة.
من هنا يبدو أن المرحلة المقبلة للنظام الايراني قد تفرض على القوى السياسية وبشكل ملح التفكير في الخروج من الاستقطاب الثنائي للسلطة بين المحافظين والاصلاحيين، والعمل والسعي لإنتاج حالة جديدة تتجاوز وتعبر هذا الاستقطاب لإنتاج خطاب سياسي يلبي تطلعات الشارع الإيراني ويلبي ضرورات إيران الداخلية والاقليمية، الا أن السؤال الابرز الذي يبرز هنا، هل ستسمح قوى الامر الواقع التي سيطرت وتسيطر على النظام منذ انشائه بانتاج مثل هذه الحالة؟ سؤال قد تبدو الاجابة عليه صعبة في ظل التنافس الكبير بين المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية التي تسعى لتكون صاحبة الكلمة الاخيرة والفاصلة في تحديد ورسم مستقبل ايران.