الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الشعور القومي ونفسية الأمة 

الشعور القومي ونفسية الأمة 

18.02.2021
علي الصراف

 
العرب اللندنية 
الاربعاء 17/2/2021 
ما من نظام مرّ على سطح الأرض، منذ بدء الخليقة، إلى يومنا هذا ظل قادرا على أن يستخفّ بالقيم والمحارم والقوانين والأخلاقيات مثل نظام دمشق. على الإطلاق. 
لقد عرفت البشرية أنظمة شتى. منها النازي ومنها مختلف أنماط الدكتاتوريات، وحتى العصابات الإجرامية. ولكن ما من واحد منها حاكمَ الناس على أساس “نفسي” أو انطلاقا من اعتبارات تتعلق بـ”المشاعر”، مثل هذا النظام العجيب. 
عشرات الآلاف ممن قضوا تحت التعذيب في سجونه، تستطيع أن تراهم في ملامح وجه الجزار. في عينيه. في جمود عضلات وجهه. في ضحكته الساخرة. في برودة الدم المدفون تحت الجلد. وجه ميّت، يخفي من تحته مئات الآلاف من الأموات. 
كان بوسع المرء أن يحسب بعد مرور كل هذه السنوات، أن هذا النظام شبع قتلا وتنكيلا وأغلق الباب على مهزلة المحاكم التي تسجن الناس باتهامات من قبيل “إصابة نفسية الأمة بالوهن”، أو إضعاف “الشعور القومي”، ولكن هيهات. 
أطفال، أناس عاديون جدا، عابرو سبيل في هذه الحياة، لا علاقة لهم بأحد، ولا أحد له علاقة بهم، يلوذون بالصمت غالبا، ولا يأخذون من عيشهم إلا القليل والهزيل، وليست لديهم مطالب، ولا أطماع، ولا هم منتمون إلى أحزاب، إلا أنهم يمكن، بخطأ ما، أو مصادفة ما، أو عبث طفولي ما، أن يجدوا أنفسهم وقد أصابوا “نفسية الأمّة بالوهن”، فحقت عليهم المحاكم، وحق عليهم السجن، بكل ما يعنيه الموت البطيء خلف جدران القسوة والعنف. 
من وضع المقياس لذلك الوهن؟ ومن أخذ الأمة إلى طبيب نفسي ليعرف مقداره؟ وكيف انتهت “الأمّة” إلى أن نفسيتها تضرّرت، من قول مجهول، لشخص مجهول، في زاوية مجهولة من هذا العالم؟ 
وما تلك الهشاشة التي تجعل “أمة” على هذا المقدار من التفاهة، بحيث تصاب نفسيتها بالوهن من جراء منشور، أو مقال، أو تعليقات على صفحة فيسبوك؟ 
ما الذي دفع “أمة” (يفترض أنها على الطول والعرض الذي نعرفه) إلى أن تجد نفسيتها مريضة إلى ذلك الحد؟ وما هو مقدار الأثر الذي تركته تلك القصاصة من الورق أو القول، عليها؟ 
أم أنها بلغت حدّ التفاهة بما أوصلها إليه هذا النظام نفسه، فصار يلصق كل قصاصة قول عابر ليغطي جلل العار الذي جعله يعجز عن أن يحمي حدود البلاد، أو يطعم شعبه خبزا؟ 
عاد نظام الموت، ليحكم الناس على أنهم ذهبوا إلى صفحات ممنوعة على الإنترنت، فأصابوا نفسية الأمة بالوهن. من دون أن ينظر إلى الوهن الذي انتهت إليه البلاد تحت قيادته. ومن دون أن ينظر إلى مقدار الوهن الذي لحق الملايين من المشرّدين من شعبه. ومن دون أن ينظر إلى الوهن الذي جعل سوريا أرض صراع بين عصابات تعينها، وعصابات تناهضها، وعصابات تحكمها، وعصابات تسرق منها الخبز. 
لم يكن كل ما انتهى إليه نظام الوجه الميّت ذاك، وَهْنا. ولا هو أصاب “الشعور القومي” بالانحطاط، ولا هو أورث شعبه الذل والتشرّد. ولا هو عاش ومات كنظام فساد. ولا هو استرخص وسائل القسوة ليحمي نفسه بالخوف. وكل ما بقي من الوهن، هو صفحة فيسبوك أو مقال، فصار لزاما عليه أن يلاحقها، لكي يستر عارا لم يترك لما بعده أي عار. وما من عار بقي ليعتب عليه في التشنيع بأدنى ما بقي للناس من حقوق. 
وبرغم أنه نظام – جثة، فمن العجيب أنه يحاكم منتقديه على أساس “مشاعر”. ألكي يزعم أن لديه مشاعر وأن جثته المتحرّكة ليست “زومبي”، بينما الكل يرى أنه خرج من القبر ليحكم بالقتل والتعذيب؟ 
لقد لوّث نظام الوحشية هذا كل وجه من وجوه الحياة بالموت، وحوّل البلاد إلى لوحة من دمار، وأطاح بعشرات الملايين من شعبه في هوة الفقر والجوع والحرمان. ليبقى الزومبيون الذين يحيطون بالجثة الأكبر، فيزعمون أن لديهم مشاعر، وأنهم يملكون أدوات القياس لمعرفة مقدار “الوهن” الذي أصاب نفسيّة الأمة من جراء قول أو مقال. 
إنه نظام كوميديا أيضا. ذات يوم تم رمي السيد وليد البني، وهو واحد من كثيرين، في السجن. وكما هو الحال، في كل سجن، فقد كان هناك سجناء من كل نوع. أحدهم كان لص سيارات. والبشر في السجن يتساوون، فإذا بالرجلين يتجاذبان أطراف الحديث، فقال البني لصاحبه “إن إيران تمارس نفوذها على سوريا وإن سوريا ساهمت في حدوث الأزمة السياسية بلبنان”. فحوكم البني بتهمة أنه “نقل أخبارا كاذبة”. صحيح أنه نقلها لشخص واحد، وكان لص سيارات، وصحيح أن لدى نظام الوهن محطات تلفزيون وإذاعات وصحفا كلّها تنقل أخبارا يُفترض أنها غير كاذبة، 24 ساعة على 24 ساعة، إلا أن ذلك لم يشفع لا لوليد البني ولا لعبدالعزيز الخير، ولا لفايز سارة، ولا لخليل معتوق، ولا لرزان غزاوي، ولا لعشرات الآلاف غيرهم، ممن حوكموا بتهمة نقل أخبار كاذبة سرعان ما أصابت نفسية الأمة بالوهن. 
جوهر الحقيقة، هو أنه نظام ساخر. يمارس كل وجه من وجوه القمع والتشبيح والانتهاكات والجرائم، إلا أنه ساخر أيضا. وقد يذهب إلى التفاوض لعشر سنوات مع من يريدون التوصل إلى حل سياسي للأزمة في بلادهم، ممن أفلتوا من السجون، إلا أنه يفعل ذلك ليسخر منهم. 
سوريا لم تعد بلادا. لقد أصبحت قبرا فحسب، يُدفن فيه الناس أحياء، كما يدفنون فيه أمواتا. بل إن الأموات أكثر راحة ممن ماتوا وتم دفنهم فوق الأرض، ليتحولوا إلى شعب مصدوم مذهول مرعوب. 
والوهن الذي هم فيه، ليس كالوهن الذي يصيبهم إذا حدث وسمعوا قولا لا تقوله إذاعات النظام وتلفزيوناته وصحفه. 
حتى الجثة، يمكنها أن تتحرّك إذا ركلتها. ولكن جثة نظام الموتى الحاكم في دمشق، لا تتحرك ولا بألف ضربة تضربها طائرات إسرائيل. أفلا يصيب هذا “نفسية الأمة” بالوهن؟ 
الحديث عن “شعور قومي” وقضايا “نفسية” وما قد يصيب بالوهن، هو في الواقع حديث سخرية، يشبه كل الشعارات القومية التي أحبطت نفسية الأمة منذ أن أصبحت هي ذاتها عارا لفرط ما انطوت عليه من أكاذيب ونفاق وأعمال دجل. 
إنه حديث ادعاء يقصد الاستهزاء من الادعاء نفسه. فالجثث التي تزعم أن لديها مشاعر، بينما هي تقتل وتدمّر وتستبيح، إنما تحاول أن تسخر من المشاعر. 
ويا ويلتاه على “الشعور القومي”، لا تعرف كم بقي فيه من الحياء، عندما سقط الحياء من جبين وجه تجمد الموت في عضلاته.