الرئيسة \  مشاركات  \  السياسة وهشاشة الوطن العربي.. لماذا تمزق مجتمعنا؟

السياسة وهشاشة الوطن العربي.. لماذا تمزق مجتمعنا؟

12.07.2018
سري سمّور


قيل لنا أن الوطن العربي يمتد من المحيط إلى الخليج؛ وأنه وحدة جغرافية متجانسة مزقتها مسطرة الاستعمار الأوروبي البغيض، وهذا الوطن العربي له جذور تاريخية عميقة، وبأن العرب ينحدرون من نفس الأجداد والجذور، وأنه متكامل في مزايا وخصائص أقطاره؛ فالنفط هو عصب الصناعة في العالم تفيض به باطن الأرض العربية في العديد من الأقطار مثل دول الخليج والعراق وليبيا، والأراضي الزراعية الثرية والثروات الحيوانية في السودان مكانها، والقوة البشرية في شتى أقطاره خاصة في مصر، مما يجعل وطننا العربي مكتفيا ذاتيا.. هذا وطن يمتاز بمناخ يغلب عليه الاعتدال، ويقع في منطقة استراتيجية لكل العالم.. وطن يدر لبنا وسمنا وعسلا، وطن هو مهبط الديانات السماوية، وطربنا على أغنية قصيدة فخري البارودي، ورددتها الحناجر بطاقة وحماسة لا توصف:
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدانِ *** ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ إلى مِصرَ فتطوانِ
فـلا حـدٌّ يباعدُنا ولا ديـنٌ يفـرّقنا *** لسان الضَّادِ يجمعُنا بغـسَّانٍ وعـدنانِ
لنا مدنيّةُ سَـلفَتْ سنُحييها وإنْ دُثرَتْ ***ولو في وجهنا وقفتْ دهاةُ الإنسِ والجانِ
فهبوا يا بني قومي إلى العـلياءِ بالعلمِ *** وغنوا يا بني أمّي بلادُ العُربِ أوطاني
وكلما كنا نكبر كنا ندرك أننا نعيش حلما تهدمه الوقائع، وتنسف الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية أركان هذا الوطن العربي، وأن ما نردد أنها حدود مصطنعة، هي حدود مقدسة عند العرب، لدرجة أن دخول بعض العرب إلى دول بعيدة غريبة، أسهل وأيسر من دخولهم إلى بلد عربي شقيق، وأن هذا النفط الذي نفتخر بوجوده في باطن أرضنا، لم يجلب لنا لا التطور ولا التقدم، بل جلب لنا الأطماع الأجنبية، ومعها الخطط المحكمة لمزيد من التمزيق، وخلق خللا اجتماعيا واضحا، وظهرت حالة من الطبقية بين أبناء من يفترض أنهم ينتسبون إلى وطن عربي واحد نتغنى به.
وفلسطين التي في غمرة الزهو بالوطن العربي الجميل، كانت تحظى بمنظومة من الشعر والشعارات والأغاني والوعود بشطب السطر المشؤوم من تاريخها، وإعادتها إلى حضن هذا الوطن العربي، كانت تزداد بعدا عن أجندات العرب، إلا بما يغذي انقساماتهم ونزاعاتهم البينية، أو يحافظ على بقاء وتقوية كياناتهم السياسية، فيما على أرض الواقع يحكم المشروع الصهيوني قبضته على أرض فلسطين، ومن لم يهجّر من شعبها.
صدمات كثيرة متوالية، أظهرت هشاشة الوطن العربي، وحالته المحزنة لمن أحبوه وعشقوه بالصورة التي تعلموها وتربوا على مفرداتها، وتبين أن هذا الوطن العربي قامت فيه بعد استعمار أوروبي دول وكيانات سياسية خاضعة بطريقة أو بأخرى لمعادلات دولية لا تمت إلى مصلحة العرب بوصفهم مجموعة لها تركيبتها الثقافية والاجتماعية بأية صلة، وأن الاستبداد والنموذج القبلي للدولة وما يترتب على ذلك من فساد وتخلف هو الغالب على هذه الدول أو الكيانات.. ولعل مسرحية (كاسك يا وطن) للثنائي محمد الماغوط ودريد لحام، كانت من ضمن صعقات أحضرتنا من سماء عالم الأحلام الجميلة، إلى أرض الحقائق والوقائع المريرة.
وعرف الصغار فور أن كبروا أن ما درسوه عن غساسنة الروم، ومناذرة الفرس موجود وحاضر بطريقة أشد بؤسا، وأن ملوك الطوائف ليسوا حالة خاصة ببلاد الأندلس التي صارت كنزا مفقودا، بل هي واقع عليهم العيش في كنفه والتكيف مع مخرجاته وإلا فإن السجون والمشانق تنتظرهم، أو لينجو من شاء واستطاع بفيزا دخول وإقامة وعمل في بلاد المستعمرين السابقين، أو لينسى واقعه بتعاطي المسكرات والمخدرات! هذه حالة يعرف حيثياتها كل عربي بلغ سن الشباب الأول، بل حتى الأطفال صاروا يدركونها؛ فالحلم العربي، لم يبق منه إلا كلمات وألحان قصيدة البارودي ... ووصل الحال منذ سنوات إلى تبخر الحلم القُطري أو الوطني، فمثلا ليس ثمة عراقي كما عرفه جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى، بل هناك سني وشيعي وكردي وغير ذلك.
ولكن هناك مسألة لا تقل أهمية، وهي الوحدة المجتمعية، والتي ربما في بعض جوانبها سحقتها الحالة السياسية؛ أما كان بالإمكان الحفاظ عليها وتقويتها، أم أن هذا غير ممكن في ظل وضع سياسي يحمل صواعق تفجير كل فكرة وحدوية؟ ولست أقصد بالوحدة المجتمعية حالة التآلف بين أبناء قطرين عربيين فأكثر، فهذه كانت أحلامنا الجميلة، ولكن ما أعنيه هو حالة الوحدة والتجانس والتعاون، أو على الأقل نبذ الشقاق والبغض بين أبناء أي وحدة أو مجموعة، بما في ذلك الأسرة والعائلة وصولا إلى الحي والبلدة.
ألا نرى أن الأسرة العربية التي تباهينا بتميزها، تتشظى وتكثر حالات المقاطعة بل الكراهية بين الأخ وأخيه أو أخته بل الوالدين والأبناء والبنات وصولا إلى الأصهار؟ ألا تغص المحاكم بقضايا الخلافات بين الأزواج أو الأقارب أو الجيران أو أصحاب التعاملات المالية المختلفة، وتجد حالة الكراهية ناجمة غالبا عن أسباب تافهة، أو لا تستحق كل هذا الحقد والترصد المفضي إلى التمزق. ربما نضحك على حالنا نحن الذين عاشوا الحلم الجميل فنقول لأنفسنا بصوت عال أو بهمس خجول: تريدون وحدة عربية من المحيط إلى الخليج، وكثير من الأسر عندكم لا يكلم الابن أباه أو أمه، وبينه وبين شقيقه ما صنع الحداد، وشقيقته تبكي عدم زيارته لها حتى في يوم العيد، وأبناء مدارسكم يحملون الأمواس والشفرات ويتشاجرون مع بعضهم؟ ما أوسع خيالكم؛ فإذا كان الإنجليز والفرنسيون وغيرهم جعلوا منكم هذا عراقي وذاك مصري وذلك شامي، فقد جعلتم من كل جهة من الجهات الأربع ومن كل منطقة وعرصة عامل عنصرية متفاعلة تنشطر انشطارات الخلايا بسرعة متوالية، لدرجة أن كل واحد منكم ربما لديه انفصام.
هل هذا التمزق المجتمعي ناتج عن التمزق السياسي، وأنه لا بد من الوحدة السياسية لتحقيق الوحدة المجتمعية، أم أن السعي لتحقيق الوحدة المجتمعية يسبق ومقدم على السياسية؟ هذا حديث ذو شجون، ولكن مما لا شك فيه أن من لا يشغلهم ولا يهمهم شأن السياسة ويفضلون حتى البعد عن مجرد الحديث فيها، يقلقهم ويؤرقهم ويشعرون بخطر التسارع في التمزق والتشظي في المجتمع، ويحسّون بأن الخطر يكبر ويزداد. وهنا نزداد حيرة، إذ كيف نوقف هذه الحالة المتدهورة على مستوى المجتمع حتى في نواته أي الأسرة؟ لا شيء حاليا سوى أن نبتهل إلى الله أن يؤلف بين قلوبنا التي تسكنها بقليل أو كثير الضغائن والأطماع والأنانية.