الرئيسة \  مشاركات  \  السياسة الشرعية عند الفقهاء افتئات على الشريعة الإسلامية

السياسة الشرعية عند الفقهاء افتئات على الشريعة الإسلامية

02.01.2016
الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي



مما يجب التأكيد عليه بداية أن الفقه الإسلامي لم يعرف في أول عهده مصطلح "السياسة الشرعية"، وكان لفظ "حكم الله" أو "الشريعة" ينتظم كل مفردات الأحكام على صعيد التصرفات الفردية وصعيد تدبير الشأن العام للأمة. والخلفاء الراشدون أنفسهم كانوا إن وجدوا نصا للنازلة حكموا به، فإن أعوزهم النص جمعوا المسلمين لاتخاذ القرار فيها شورويا.
ثم لما قامت الملوكية الجبرية المستأثرة بالسلطة، سارت على نهج استبدادي واحد هو السمع والطاعة والتأييد والإقرار لكل ما يصدر عن السلطان، وافق الشريعة أو خالفها.
هذا الانحراف السياسي في خط سير الدولة ساعد على ظهور فقه تبريري لدى فئتين من الفقهاء:
فئة البطانة المستفيدة والحاشية الانتفاعية.
وفئة أخرى يئست من إمكانية تأسيس السلطة السياسية على مبادئ الإسلام العادلة فلجأت إلى محاولة تكييف الأحكام الشرعية مع واقع الاستبداد والقهر، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
حينئذ أخذت معالم ما أطلق عليه فيما بعد مصطلح "السياسة الشرعية" تتبلور وتتضح وتتطور وتلبس لكل حالة لبوسها.
ولعل أبرز معلمة في مسيرة تطور هذا المصطلح الجديد وتحديد وجهته، هو ما قام به عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري في قضية التحكيم المشهورة، بين الإمام على كرم الله وجهه، وبين معاوية رضي الله عنه، مما كان له أبلغ الأثر في تحديد  القبلة السياسية لنظم الحكم لدى المسلمين فيما بعد.
لقد بدأت مسيرة "السياسة الشرعية" في مجال التدبير العام منحرفة آيلة للسقوط، منافية لمبادئ الإسلام، تصرفا استبداديا ظالما مخادعا يفرض نفسه على الأمة بالسيف البتار والدرهم والدينار، ثم محاولات فقهية تبريرية صيغت لها قواعد فقهية سائبة من مثل "أمر الإمام يرفع الخلاف" و " أمر الإمام نافذ" و "للسلطان أن يحدث من الأقضية بقدر ما يحدث من مشكلات"، ثم تبنيا رسميا لمصطلحها العلمي وتطويرا له وتوسيعا لمجالاته، ثم في عصرنا هذا دعوة إلى أن تعد"السياسة الشرعية"  علما مستقلا عن المباحث الفقهية ونصوصها في الكتاب والسنة، وأن تتخذ مرجعا في جميع مرافق الدولة وآليات تأسيسها وتسييرها.
إن الزعم بأن الدولة لدى المسلمين بعد سقوط الخلافة الراشدة، انبثقت من الشريعة الإسلامية، تعتوره كثير من المآخذ، في مقدمتها أن العصبية القبلية والأسروية هي التي أسستها وأنشأتها وأقامت لها القواعد ومهدت لها السبيل.
كذلك القول بأن ما عرف بالسياسة الشرعية انبثاق سليم من نصوص الكتاب والسنة، ليس له ما يؤيده أو يرجحه، لأن السياسة الشرعية التي عرفناها في مصنفات القوم ليست إلا نتاجا لفقه التكيف مع واقع الظلم، ومحاولة تلطيف فاشلة لجو الاستبداد، بعد العجز عن إقامة الدولة على أسس شرعية سليمة. إن السياسة الشرعية لديهم ترويض للشريعة الغراء وليٌّ لأحكام نصوصها الثابثة، من أجل إخضاعها لأهواء الحكام والظالمين.
إن فقه السياسة الشرعية الذي استنبت في الساحة الإسلامية، ليس إلا وليدا لنهج الحكام في ضبط ممالكهم، وترويضها، وإخضاعها، وفصل قضايا الأمن فيها عن سلطة القضاء الشرعي، بتوظيف مجال الفراغ التشريعي واستحداث عقوبات جائرة فيه، مموها عليها ببعض التأويلات الفقهية، وببعض المخالفات المتروك أمر البث فيها وردعها للأمة.
لقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، مجمعين على أن النظر في كل ما يعرض لهم مرجعه الكتاب والسنة، ثم الشورى إن أعوزهم النص، بما في ذلك ميدان القضاء الذي كان من صميم عملهم، إلا ما كان من أمر عمر إذ كثرت أشغاله واتسعت حروب الجهاد في عهده، ففوض القضاء إلى غيره، واستعان فيه بأبي الدرداء بالمدينة، وشريح بالبصرة، وأبي موسى الأشعري بالكوفة.
أما ما تعلق من أمر المسلمين بقضاياهم العامة (السياسة العامة للدولة) فإن الراشدين كانوا يشرفون عليه بأنفسهم بواسطة الشورى العامة بالمساجد.
وعندما قامت الملوكية في عهد الأمويين بقيت الأحكام الشرعية منازعات فردية وعقودا تجارية واجتماعية ومعاملات مالية وحدودا شرعية بيد القضاء؛ وما تعلق بالسياسة العامة كان الملوك يباشرونه بأنفسهم أو يوكلون به أهل عصبيتهم بالنسب والمصاهرة والولاء.أما المظالم غير المنصوص عليها وكان جزء منها متعلقا بأمن الممالك، ومحتاجا كما يقول ابن خلدون إلى سطوة السلطنة ونصفة القضاء فكانوا في كل من دولتي الأمويين بدمشق والأندلس، ودولة العباسيين ببغداد، والعبيديين بإفريقية، يشرفون عليها مباشرة، بعيدا عن سلطة القضاء الشرعي، بواسطة صاحب الشرطة (أو متولي المظالم). فأدى ذلك إلى شطط شديد في استعمال النفوذ ومعالجة التهم وعمليات التعزير والتأديب والردع  والعقوبة على النوايا والشبهات والظنون والاحتمالات.
كذلك الأمر عندما تقلص ظل الخلافة الملوكية المركزية، واستقل السلاطين بأقطارهم، واستفحل أمر النظر في المظالم، وقطعت الصلة بينها وبين الأحكام الشرعية بصفة تكاد تكون مطلقة.
إن الأصل في الشريعة الإسلامية أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأنه لا يأثم امرؤ بوزر غيره، ، وأن الاجتهاد قضاء وإفتاء ينبني على علمين علم بواقعة المسألة وحالها وملابساتها، ثم علم بحكم الله فيها أو في مثلها، ثم يطبق الفقيه علمه بحكم الله على علمه بواقع المسألة وما سوى ذلك عفو، وأن أمر الجماعة الإسلامية (الأمة) في منطقة العفو (الفراغ التشريعي) لا حق لأحد في احتكاره والاستئثار به، ملكا كان أو رئيسا أو خليفة أو ذا شأن، وأن متولي البث فيه هو مجموع الأمة في فضاءاتها الشوروية العامة،كما ترشد إليه آيات القرآن الحكيم والسنة النبوية قولا وعملا؛ إلا أن استبعادها عن أمر هو لها واحتكاره بيد الحكام مباشرة أو بواسطة ولاة مظالمهم وقادة شرطتهم وأمراء جيوشهم من ذوي الولاء الأسري أو القبلي أو الانتفاعي، كان له أبلغ الآثار وأخطرها على الدين والمجتمع والوحدة ماضيا وحاضرا ومستقبلا. لا سيما وقد استبعد هذا الأمر أيضا حتى عن سلطة القضاء الشرعي وعولج تحت مظلة مصطلح غير منضبط دعي "التعزير سياسة" و"سياسة شرعية"، واستحدثت له أحكام زجرية يحرم إيقاعها على الحيوان، بله بني الإنسان، أحكام تتراوح بين الجلد والقتل والصلب والتحريق والعصر والتوسيط والنفخ من الدبر حتى الموت، مما عد تعزيرا شرعيا وتعزيرَ سياسةٍ، فما هو هذا المذهب الجديد والنظرية المستحدثة لردع المخالفات وتقويم المنحرفين عن الدولة وفيها؟ وكيف تطور من تعزير شرعي إلى تعزير سياسي ثم كرسه الفقهاء سياسة شرعية لتسيير الشأن العام لا يزيع عنها إلا هالك؟.
في البداية كان الحكام المسلمون فيما بعد الخلافة الراشدة، إذا غضبوا من أحد بطشوا به وإن ارتكب مخالفة مضرة بأمنهم نكبوه، من غير أن يحاولوا أو يفكروا في إضفاء الشرعية على تصرفهم. إلا أن إنكار العامة بوازعهم الديني وحسهم الإنساني، وتنديد بعض العلماء الصادقين لما استحفظوا من كتاب الله، أدى إلى تجنيد بعض فقهاء السلطة، في موجات تبرير وحملات تمويه ومحاولات "شرعنة" للظلم والقائمين به، فكان مبحث " التعزير" في الشريعة الإسلامية أيسر مدخل وأوطأ كنف في هذا المضمار.
والتعزير لغة من أسماء الأضداد، يفيد التعظيم والتبجيل والنصرة كما في قوله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) الفتح 9، كما يفيد الردع والرد والتأديب كما في المباحث الفقهية التي عرفته بأنه تأديب بضرب وغيره دون الحد أو أكثر منه، في الحدود التي لم تتكامل أركانها وتقتضي معاقبة مرتكبها كما فعل عمر إذ جلد أبا بكرة في داره وأمر زوجته أن تكتم[[1]] ، وفي المخالفات والجنايات التي لم ترد النصوص بأحكام فيها، وفي الجرائم السياسية ضد الدولة ورموزها، وفي كل ما يرى فيه الحاكم مصلحة تقتضي إيقاعه.
ولقد حاول الفقهاء من مختلف المذاهب التمييز بين الحد وبين التعزير، وذكروا فروقا بينهما كثيرة من أهمها:
- أن الحد مقدر شرعا والتعزير غير مقدر شرعا ومفوض فيه إلى رأي الحاكم.
- أن الحد يدرأ بالشبهات والتعزير يجب بالشبهة.
- الرجوع في الإقرار يعمل به في الحد ولا يعمل به في التعزير.
- الحد لا تجوز فيه الشفاعة والتعزير تجوز فيه.
- الحد لا يجوز للإمام تركه والتعزير فيه الترك.
- الحد يسقط بالتقادم والتعزير لا يسقط.
- الحدود واجبة النفاذ واختلف في وجوب التعزير.
أما مشروعية التعزير فقد اختلف فيها الأئمة الأربعة.
وإذ يرى الشافعي أن التعزير ليس بواجب وأن للإمام حق إيقاعه وتركه، يرى الحنابلة أن ما كان من التعزير منصوصا عليه واجب، وما لم يكن منصوصا عليه فالأمر لنظر الإمام إن شاء عزر وإن شاء ترك، ويذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه واجب، لورود أحاديث موقوفة فيه، مثل ما روي عن علي كرم الله وجهه فيما أخرجه ابن الجعد في مسنده عن عبد الملك بن عمير قال:  سئل علي عن قول الرجل للرجل:"يا فاجر يا خبيث يا فاسق"، قال:" هن فواحش فيهن تعزير وليس فيهن حد"، وما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن عبد الله بن صيفي أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري "ولا يبلغ بنكال فوق عشرين سوطا ".
ولئن كان الحديث النبوي الوارد في أمر التعزير متكلما فيه، على رغم اتفاق البخاري ومسلم على تخريجه عن أبي بردة، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله )، فقد بلغ الاختلاف في  تأويله وتقدير العدد فيه مدى بعيدا.
رأى مالك أن تحديد قدر التعزير يكون على قدر العقوبة وصاحبها، ويخير الإمام بين العشرة وبين ما فوق الحدود الشرعية جلدا وقطعا وقتلا وصلبا، وذهب بعض المالكية إلى أن عدد العشرة مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الرأي في غاية الضعف، وذهب أشهب إلى العمل بظاهر الحديث.
ورأى الشافعي ألا يبلغ بالتعزير ما هو مقدر في الحدود، فلا يزاد على تسع وثلاثين ضربة، أي أقل من الأربعين التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض الشافعية إلى أن حديث "العشرة" منسوخ بفعل الصحابة، وهذا ضعيف جدا لأنه لم يثبت إجماع من الصحابة على نسخه، ورأى القاسم بن القفال الشاشي من الشافعية عدم تجاوز العشرة عملا بظاهر الحديث.  
كما يستشهدون على حق الحاكم في إيقاعه وتركه وتقديره وتعيين مستحقيه بحديث ضعيف ورد في جامع الترمذي و مسند الشهاب هو (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله عز وجل) وفي رواية  كنز العمال عن عروة مرسلا (إن لكل قوم فراسة وإنما يعرفها الأشراف) وبحديث آخر متكلم فيه ورد في " نوادر الأصول " للحكيم الترمذي والمعجم الأوسط عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم "
وذلك ما ذهب إليه ابن قيم الجوزية بقوله في كتابه "الفراسة المرضية في أحكام السياسة الشرعية" :[وقول أبي الوفاء ابن عقيل ليس هذا فراسة، فيقال ولا محذور في تسميته فراسة، فهي فراسة صادقة، وقد مدح الله سبحانه الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه فقال تعالى  (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) وهم المتفرسون الآخذون بالسيما وهي العلامة يقال تفرست فيك كيت وكيت وتوسمته وقال تعالى {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} محمد 30،وقال تعالى {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} البقرة 273، وفي جامع الترمذي مرفوعا (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)  ثم قرأ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} الحجر 75].
 وكلا الحديثين لا ينطبق معناهما ولو كانا صحيحين على حالات التعزير سياسة من قبل الحكام الظلمة، فما من أحد منهم كان ينظر بنور الله لتكون له تلك الفراسة، وما من أحد منهم كان من رجال الله الذين يعرفون الناس بالتوسم.
أما الاستشهاد بقوله تعالى في الآية 75 من سورة الحجر: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) وقوله مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم في الآية 30 من سورة محمد (وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ )، وقوله في الآية 273 من سورة البقرة (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ) فأبعد عن موضوع التعزير سياسة بعد الأرض عن السماء،  لأن الآية الأولى متعلقة بضرورة الاعتبار بما وقع لقوم لوط، لمعرفة قوة الله وجبروته وغيرته لانتهاك حرماته، والثانية متعلقة بوحي من الله تعالى لنبيه في شأن المنافقين. والثالثة في أمر الصدقات والفقراء الذين لا يكاد يعرفهم الجهلاء، وليس الحكام ممن يخسف الله الأرض انتقاما لهم من عصاتهم، ولا ممن يوحي إليهم في شأن أعدائهم، وما ورطهم فيما يرتكبون إلا الجهل.
إن بناء العقوبة على الفراسة والتوسم والظن والتخمين والشبهة والتهمة واعتمادا على نظر الحاكم ومزاجه وما يراه مصلحة يعد بابا مشرعا للفتن والظلم والجور والاستبداد.
وقد غلط ابن قيم الجوزية في كتابه "الفراسة المرضية في أحكام السياسة الشرعية" إذ دافع دفاع المجادل المستميت على نظرية الفراسة وجعلها من أهم محاور الحجة في الموضوع ووصفها بأنها (مسألة كبيرة عظيمة النفع جليلة القدر إن أهملها الحاكم أو الوالي أضاع حقا كثيرا وأقام باطلا كثيرا ...). وإلى ذلك ذهب ابن تيمية أيضا بقوله في كتابه:"السياسة الشرعية" إذ قال:(وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة....فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي)، وبعد أن بين أن التعزير يكون بالإيلام قولا أو فعلا، كما يكون بالحبس أو تسويد الوجه وإركاب المعاقب على دابة مقلوبا، ذكر أن مالكا وبعض الحنابلة جوزوا البلوغ بالتعزير إلى القتل للإفساد ولو بدون ردة، كما في حالة القدرية مثلا.
ولئن كان الفقهاء قد حاولوا الاستشهاد على شرعية ذلك ببعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة واصطياد ما انتحله الأخباريون من روايات، أو القياس على بعض حالات الحرب التي لها أحكام خاصة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يثبت أنه قد عزر خارج الحدود الشرعية، بل كان يعفو ويصفح حتى في حالات الإساءة إليه، وقد أخرج مسلم في صحيحه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليهم فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير:(اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر) فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} النساء 65.
وأخرج أيضا عن عبد الله قال:  قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما، فقال رجل: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته، فغضب من ذلك غضبا شديدا واحمر وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له، ثم قال: (قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر).
وفي المستدرك على الصحيحين: عن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصبت حدا، قال: فلم يسأله عنه، وأقيمت الصلاة فصلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من صلاته قال: يا رسول الله أصبت حدا فأقم في كتاب الله، قال: (أصليت معنا الصلاة؟)، قال: نعم قال: (قد غفر لك).
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:  إني أخذت امرأة في البستان فأصبت منها كل شيء إلا أني لم أنكحها فافعل بي ما شئت، فلم يقل له شيئا ثم دعاه فقرأ عليه هذه الآية:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} هود 114.
لقد نشأت نظرية العقاب خارج إطار الحدود الشرعية في حضن مسوغات فقهية مختلف فيها، ولكنها أخذت في التطور مع مرور الزمن وترامي رقعة السلطة، وفشو الفقه واتساع شقة الخلاف فيه، وبعد أن كان التعزير محصورا في المخالفات الشرعية غير المنصوص على حكم فيها كالغش والكذب والحدود التي لم تكتمل أركانها، عرف التعزير للمصلحة المرسلة المقدرة بنظر الحاكم، والتعزير للتهم بالإساءة للدولة وأمن السلطنة، والتعزير بالشبهة والظن والفراسة والتوسم، واتخذ لكل هذه التعازير اسم جامع هو التعزير سياسة.
من ثم عرف الفقه الإسلامي مصطلح "السياسة" الذي تطور مع الزمن فصار "سياسة شرعية" بيد الحاكم يصرفها كيف شاء وأنى يشاء وفي من يشاء.
كان الأصل في الشريعة أن العقوبة لا تكون إلا حدا، ثم صارت حدا وتعزيرا، ثم حدا وسياسة، ثم سياسة شرعية، وعرف الفقه الإسلامي بهذا التطور الجلد حدا والجلد سياسة، والقطع حدا والقطع سياسة، والقتل حدا والقتل سياسة، ومصادرة الأموال حقا ومصادرتها سياسة، ثم خلعت ربقة التقيد بالنصوص وتوالت المظالم على الأمة بالصلب سياسة وتقطيع الأطراف سياسة والقتل بالعصر سياسة والقتل بنفخ الضحية من الدبر حتى الموت سياسة، وفي عصرنا هذا عرف تذويب الضحايا في حامض "الأسيد" سياسة.
إن هذه النقلة النوعية من مصطلح " التعزير شرعا " إلى مصطلح "العقاب سياسةً" قد رفعت الحرج الديني عن الحكام، ووسعت عليهم باستعمال لفظ غائم ضبابي، يبتلعه العامة ويستسيغونه ما دام الفقهاء يستعملونه للتعبير عن شرعية أي تصرف.
إن لفظ "سياسة" جذره اللغوي مشترك، منه "سَوِسَ"  الشيءُ إذا وقع فيه السوس، والسُّوس أيضا معناه السجية والخلق والأصل.
وساس البهائم والدواب إذا رعاها وروضها. وساس الرعية أمرها ونهاها وروضها على السمع والطاعة. ومن المجاز قولهم سَوَّسه القوم أي جعلوه يسوسهم. ومنه تقسيمهم الناس إلى ساسة وسوقة، ساسة تسوق وعامة تساق. ومنه قول الشاعر:
فبينا نسوق الناس والأمر أمرنا        إذا نحن سوقـة نتنصف
فأف لدنيا لا يـدوم نعيمهـا        تقلب تارة بنـا وتصرف
إن هذا المصطلح المستحدث "لشرعنة" تصرفات الحكام لا تقره مبادئ الإسلام وتعاليمه شكلا ومضمونا، لما يحمله من معاني استعلاء فئة على فئة، وما يعطيه للحاكم من حق التصرف في الشأن العام استبدادا تاما لا معقب له، والاستخفاف بدماء الناس وأموالهم وأعراضهم بلغ حد الإجرام، وما يفتحه من أبواب للفتن والمظالم على جميع الصعد:
على الصعيد السياسي إذ تمت تحت غطائه السيطرة على أمر الأمة، وسخر للأهواء والمصالح الفردية ونهب المال العام، أمام عين الأمة الخائفة من هذه العقوبة المستحدثة غير المقدرة عقلا أو شرعا، والموكولة إلى مزاج الحاكم وعفوية ما يصدر عنه في حالات صحوه وسكره، غضبه وزهوه،  قتلا أو بترا أو صلبا أو جلدا أو مصادرة.
وعلى الصعيد الاجتماعي فرض على الأمة الفقر والفاقة والخدمة الذليلة في أعتاب الحكام وأمراء الشرطة والجيش وفي قصور النخب الفاسدة ذات النفوذ والجاه.
وعلى صعيد السيادة الوطنية فتحت البلاد للغزو الأجنبي عسكريا وثقافيا وعقديا.
وعلى صعيد التواصي بالمعروف والتناهي عن المنكر، أجبر الدعاة على لزوم الصمت وملازمة الظل تحت طائلة التعزير سياسة وما ينتج عنه من قتل وسحل وانتهاك أعراض.
قال ابن نجيم في البحر الرائق: (السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي).
وقال ابن القيم في الطرق الحكمية: (عن ابن عقيل قال: السياسة ما كان فعلا مع الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به الوحي، ومن قال لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فقد غلط).
ومن الفقهاء المعاصرين يقول الشيخ البوطي:(أما التنفيذ فإن الشارع يعطي الحاكم طائفة واسعة من الأحكام تسمى أحكام السياسة الشرعية، يملك أن يتحرك تحت مظلة هذه الأحكام ...)
وقال الطرابلسي في "معين الحكام": (السياسة ما يحتاجه الحكام والولاة من إيقاع بعض العقوبات ردعا وزجرا لتوصد أبواب الفتن).
إلا أنه في نفس الكتاب "معين الحكام" ينتبه لمخاطر السياسة وينبه إليها محذرا بقوله في الحكم بالفراسة[[2]]: ( فالحكم بالفراسة مثل الحكم بالظن والتخمين وذلك فسق وجور من الحاكم ) ثم يعقب على ذلك بتفصيل المظالم التي تنشأ عنها قائلا: ( اعلم أن السياسة شرع مغلظ ، والسياسة نوعان سياسة ظالمة فالشرعية تحرمها وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم...وهي باب واسع تضل فيه الأفهام وتزل فيه الأقدام وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود ويجرئ أهل الفساد ويعين أهل العناد والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة ويوجب سفك الدماء وأخذ الأموال غير الشرعية....)
ولئن ترك الطرابلسي في هذه الفقرات منفذا لتمرير بعض تصرفات الحاكم بإشارته إلى ما سماه السياسة الشرعية، دون أن يضع لها تعريفا دقيقا أو آلية واضحة دقيقة أو مقياسا تعرف به، فإن الفقيه المالكي الإمام القرطبي في تفسيره[[3]]  قد وضع حدا لكل تأويل في هذا الشأن فقال عن الفراسة التي هى ركيزة أحكام السياسة:
( قال القاضي أبو بكر بن العربي:" إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرَّس، وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريق إياس بن معاوية أيام كان قاضيا، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاشي صنف جزءا في الرد عليه، كتبه بخطه وأعطانيه، وذلك صحيح، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها ).
إننا إذ ننقض ما دعي "أحكام السياسة" في مجال المخالفات والجنايات التي لم يرد من الشرع حكم فيها، وعُدَّتْ في منطقة الفراغ التشريعي، لا نقصد ترك علاقات الناس فوضى، ولا إهمال التناصف بينهم فيما يحدثونه من مظالم، ولكن لنؤكد حقيقة شرعية هي أنه لا يجوز أن يستأثر بهذه القضايا حاكم فرد أو فقيه مجتهد، لأنها أمر عام، ليس أحد بأحق بالإشراف عليه من أحد، ولأن مصلحة العامة في مجال الفراغ التشريعي يستحيل أن يحيط بها إحاطة جامعة فقيه أو حاكم أو مجلس حكم، ولأن الفرد مهما بلغت تقواه وإحاطته بأوجه العلم لا يستطيع تحقيق الموضوعية والتجرد فيها،ولأن آلية تنظيمها والتشريع لها وضبطها كتابا وسنة هي الشورى الجماعية. 
_________________________
[1]  - المبسوط للسرخسي 9/44.
[2]  - معين الحكام ص 68.
[3]  -  القرطبي 10/44.