الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الساروت يعود لحضن الوطن

الساروت يعود لحضن الوطن

12.06.2019
أحمد عمر


مدونات الجزيرة
الثلاثاء 11/6/2019
كان يمكن للساروت أن يفرَّ بنفسه مثلنا إلى فردوس الدنيا، ألمانيا مثلا، فالناس تهرب من الحرب، وقد ولد الإسلام بالهجرة، وولد من هجرة، وكانت أسماء بنت عميس تفاخر عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما- بهجرتين، وكانت ألمانيا سترحب به، وكان يمكن أن يحصل على شهادة B2، فقد أدّى ما عليه وزاد، وكان يمكن له أن يبثَّ صورا حيّة بالفيديو من قاعة درس تعليم الألمانية وهو يرقص رقصة صوفية على نشيد من أناشيد الثورة مع الزملاء والمعلّمة، والألمانيات لا يشبعن من الفرح والبهجة، فنشارك الفيديو ونقصفه بآلاف اللايكات الحمراء.
كان قد أنشد وأصيب، وله ما ليس لغيره من شهداء في أسرته، أما الدار فهي أقل ما يجود به السوري تدميرا أو مصادرة، وكان يمكن أن يقود مظاهرات في شوارع أوربا، وكان لمثله مرونة في الاندماج ليست لغيره، فهو حارس مرمى معروف، وله حضن ذهبي تعشقه الكرة. كان الثاني في قارة آسيا في إحدى السنوات، وكان أسمر، ومسلولا من غمده، وطويلا مثل سيف خالد بن الوليد، وشجيّ الصوت، والشقراوات الألمانيات يفضلن في هذه الأيام الغرباء، الغريب دائما له بهجة ليست للقريب، لهجته في اللغة الجديدة حلوة مثل لهجة الطفل أول حبوه، وكان يمكن للشقراوات ألمانيا، وهنَّ شقراوات بالهبل، ليس في وجوهن خدش واحد، إن كان من خدش أو أثر جدري فهو من الكاميرا، أن يتحلقن حوله، فيحصد قلوبا حمراء تنفجر مثل البالونات بعد يوم واحد.
وكان يمكن له أن يروي ذكرياته في الخالدية، وأن يتحدث عن أمه التي جادت بأبنائها ولم يبق لها سوى عبد الباسط، كان يمكن له أن يأخذ صورا تذكارية بجوار أطعمة سورية أعدَّها بنفسه، كأن يحفر كوسا محشي، فنُعِدّها صوراً وطنية مثل معركة ميسلون، أو مذبحة الخالدية، لكنّه فضّل أن يحفر لنفسه نقوشا في أرواحنا، وكان يمكن له أن يصوّر نفسه وهو يأكل فقد جاع تحت الحصار كثيرا، فنرى الصور ونقول ألف صحة أبو جعفر، وأن يلوّح لنا بالجواز الألماني الأحمر، فنحسده على جواز يتيح له زيارة 150 دولة، لكنه اختار ما عند الله.
فتًى ماتَ بين الضربِ والطعنِ ميتة ً /   تقومُ مقامَ النصرِ إذْ فاتهَ النصرُ
لم أجد مديحا - وليس رثاء لشهيد - كما مُدح عبد الباسط الساروت، وأحسب إنني أول من أطلق عليه لقب "حارس الكرامة" في مقال في القدس العربي، وهو وصف يتبادر إلى الخواطر، والحوافر تقع على الحوافر، وكان المرمى السوري مكسور العوارض، مفتوحا، والحكم هو العدو. والأسباب هي أنه اجتمع للساروت ما لم يجتمع لغيره من الشهداء فقد جمع بين البداوة الأصيلة والحضارة الحديثة، ونضارة الشباب وحكمة الكهول، بين الرياضة وقد غدت كرة القدم ليلى، وكل شاب قيس، وبين النشيد والحِداء.
اجتمع له سبق الثورة والجهر بها، وهو من عاصمتها، ومن مدينة خالد بن الوليد. ومن العجيب أنه شبّه بالنيكوتين جيفارا، وتاريخنا فيه آلاف الشهداء وأولى بالتشبيه، وهو سابع سبعة من شهداء أهل بيته، ربما ثامنهم أو تاسعهم، وهو إلى ذلك شاب لم يطر شاربه، له ذؤابة، ونمت له في سنين الثورة جدائل وغدائر وأنهار. واجتهد خصومه في البحث له عن عيوب، فكان كمثل الجاهل بالإملاء الذي يجهل أين تكتب الهمزة، تحت ألف الأربعاء أو فوقها فطلب تأخير الاجتماع إلى الخميس.
لما قُتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر ألا أخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك؟ قلت: بلى. قال: ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلّم أباك كفاحا، فقال: يا عبدي تمنّ عليّ أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية! قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل هذه الآية (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
فكأنما قال ما قال الشاعر: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد / لنفسي حياة مثل أن أتقدما. عاد الساروت إلى الوطن، فهناك الوطن.