الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الدمشقيات المحجبات والنائب العام الفرنسي الرجعي

الدمشقيات المحجبات والنائب العام الفرنسي الرجعي

03.07.2019
ثائر دوري


القدس العربي
الثلاثاء 2/7/2019
اندلعت عام 1934م مظاهرات في دمشق والمدن السورية احتجاجاً على مشروع معاهدة مع الفرنسيين لا تلبي الطموحات الوطنية للسوريين طرحه الوزير شاكر نعمة الشعباني على مجلس النواب.
تصاعدت حدة المظاهرات فتصاعد القمع الفرنسي "وأخذ رجال الشرطة يقبضون على الطلاب والشباب ويسوقونهم أفواجاً إلى المحكمة الأجنبية لتصدر عليهم الأحكام بموجب قانون قمع الجرائم. ورأت المرأة السورية التي سبق لها الاشتراك في جميع الحركات الوطنية، أن تساهم أيضاً في هذه الحركة فخرج فريق من فضيلات نساء دمشق بمظاهرة رائعة تعب في تفريقها رجال الشرطة، ثم تكررت مظاهرات النساء حتى عيل صبر الفرنسيين منهن فأوعزوا بالقبض على المتظاهرات وسجنهن ومحاكمتهم بموجب قمع الجرائم وهكذا وقف في مساء أحد الأيام بضع عشرة سيدة معتقلة أمام المحكمة الأجنبية يستجوبن على جريمتهن !…
الحياة النيابية
فكن بجرأتهن ووطنيتهن موضع الإعجاب. وجاء دور مطالعة مسيو موغان النائب العام فوقف وحمل على النساء المتظاهرات حملة دنيئة ونعتهن غير شريفات لأنهن يخرجن من خدورهن ويتظاهرن في الشوارع، ونعت السوريين أنهم جبناء "لاش" لأنهم يسمحون لنسائهم بالتظاهر ويتوارون وراءهن !..". كما جاء في العدد الخاص من جريدة "بردى" الصادر بتاريخ 18 نيسان 1946 م والذي خصصته لاحتفالية عيد الجلاء الأول في 17 نيسان/ابريل 1946.
و يؤكد أكرم الحوراني في مذكراته الواقعة. يقول "في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1934 اشتركت في أكبر مظاهرة جامعية. كانت دمشق وكافة المدن السورية تريد أن تعلن عن غضبها على إيقاف الحياة النيابية بعد رفض المعاهدة فاشترك طلاب الجامعة مع تلاميذ المدارس وجموع حاشدة من الأهالي في مظاهرة ضخمة اخترقت شوارع دمشق، وفي شارع بغداد انضمت إلينا مظاهرة نسائية هزتني تأثرا وانفعالا، كن حوالي مئة سيدة محجبات يصرخن نادبات كما لو كن يبكين ميتا عزيزا، وقد سرن مع المظاهرة حتى سوق ساروجة والعمارة ومسجد الأقصاب، وهناك جاءت قوة كبيرة من الشرطة فاعتقلت أكثر من خمسين سيدة، مما زاد النفوس اشتعالا، فقامت الوفود تحتج على اعتقال النساء، وأمطرت المدن السورية مكتب المفوض السامي ببرقيات الاحتجاج على هذا العمل المنافي للعادات والتقاليد، فازداد غضب الفرنسيين على "الذين حرضوا هؤلاء النسوة على الاشتراك بالإضراب" حسب تعبير المفوض السامي. أما المسيو موغان المدعي العام فقد قال: "من المؤسف أن نرى هؤلاء الدمشقيين يرسلون بناتهم ونساءهم للتظاهر في الطرقات والإخلال بالأمن. إن هذا ضرب من النذالة والجبن".
كما ذكرها فخري البارودي في مذكراته التي حققتها ونشرتها وزارة الثقافة السورية. لكن وقع خطأ غير مفسر في رواية البارودي وهو قوله أن تاريخ المظاهرات هو 1937 م مع العلم أن هذا التاريخ غير منطقي حيث في ذلك العام كانت سوريا محكومة من الكتلة الوطنية التي وقعت معاهدة 1936 وبالتالي لم يكن هناك نائب عام فرنسي.
نلاحظ من الروايات المتطابقة لكل من جريدة "بردى" والنائب أكرم الحوراني وفخري البارودي. نلاحظ أن النائب العام الفرنسي، سليل الثورة الفرنسية ووريث عصر الأنوار ودعاوي تحضير الشعوب وتحرير المرأة والمساواة بين الجنسين. يتكلم كرجل محافظ "رجعي حسب تصنيفاتهم" فهو ضد خروج المرأة من البيت وضد مشاركتها في الحياة العامة كما أنه بمرافعته يستعيد قيم الشرف التي تربط شرف الرجل بالمرأة، وتقول بوجوب ملازمة المرأة بيت زوجها أو أبيها. وهي قيم ما إنبت الغرب يحمل عليها متهماً إياها بالرجعية والتخلف ويتهمها أنها سبب رئيسي لوضع العرب والمسلمين المتردي. كما أن أحد ادعاءات الحضارة الغربية أثناء غزوها لشعوب العالم هو خطاب تحرير المرأة ومساواتها بالرجل!
نعثر في كلمات النائب العام الفرنسي على الوجه الحقيقي لخطاب تحرير المرأة الغربي الموجه للعالم الثالث وهو استخدام دعاوى حرية وتحرر المرأة كأدوات لهدم الأسرة وقلب النظام الاجتماعي القائم مما يضعف مناعة المجتمع ضد الغزو ويفتت آليات المقاومة. لكن إن استخدمت المرأة حريتها كي تقاوم الاستعمار ومن أجل المساهمة في تحرير بلدها فهو ضد هذه الحرية، وينعت هذه المرأة بغير الشريفة كحال النائب العام. وكأن لسان حال الغرب "نحن مع حرية المرأة لتحقيق مصالحنا" أما إن تعارض ذلك مع مصالحنا فنحن ضدها وضد حريتها.
كما يظهر جليا من خطاب النائب العام الفرنسي أن هناك وجهين متناقضين للدول الغربية وحتى للأفراد فقد يكونوا تقدميين في بلادهم لكنهم رجعيون في المستعمرات دون أن يشعروا بأي حرج، فهم أشبه بالدكتور جايكل في بلادهم وبمستر هايد خارجها، مع ملاحظة أنهم قد يخرجون وجه المستر هايد حتى داخل بلادهم إن اضطرتهم الظروف.
مبارزة بالأحذية
وأبرز مثال على ذلك سياسة فرنسا المنتدبة على سوريا، فهي دولة لا دينية مغرقة في علمانيتها في الداخل الفرنسي لكن مرتكزات انتدابها في سوريا كانت دينية. يقول ساطع الحصري "ما زالت الكاثوليكية تشكل ركناً هاماً في بناء الدولة الفرنسية وحجراً أساسياً في سياستها الخارجية رغم كل علمانيتها الداخلية وعبر عن ذلك غامبيتا المسؤول الفرنسي البارز بكلمة سارت مسرى الأمثال " العلمانية ليست بضاعة للتصدير خارج فرنسا". فالدين أداة من أدوات السياسة الفرنسية الخارجية. كما أشار مسؤول فرنسي كبير أثناء عهد الانتداب في سوريا "إلى أن ذهابه إلى القداس في بلاده يجر عليه عواقب وخيمة، بينما تكمن العواقب الوخيمة في عدم ذهابه للقداس في سوريا".
نتابع مع جريدة "بردى". لم تجرؤ الصحف على نشر خبر إهانة النائب العام لشرف الدمشقيات. لكن كاتب هذا المقال منير الريس، صاحب امتياز جريدة "بردى"، وكان يوم الحادث يعمل في جريدة "القبس". كتب رداً على النائب العام مدافعاً عن النسوة فأشار إلى أنهن لا يقللن وطنية عن نساء أي أمة في العالم، ولا تختلف حركتهن بمغزاها عن حركة جان دارك التي يمجدها الفرنسيون،و في جملتهم النائب العام مسيو موغان، فإن كن غير شريفات فإن جان دارك تكون أيضاً غير شريفة.
بعد يومين عطل المفوض السامي جريدة "القبس". كما تحمس النائب فخري البارودي للقضية فأرسل كتاباً إلى المسيو موغان يطلبه فيه إلى المبارزة لأنه أهان السوريين ونساءهم بأقواله مع شاهدين هما أديب أفندي الصفدي والدكتور منير العجلاني، حسبما ورد في مذكرات البارودي سابقة الذكر فطردهما مسيو موغان، وثارت ثائرته وتوجه إلى دار المندوب شاكياً لكن المندوب أنبه على أقواله التي أثارت النفوس في ظرف تحتاج فيه فرنسا للهدوء. ثم أرغمه على تكذيب تصريحاته فانصاع النائب العام. يتابع منير الريس إكمال القصة فيقول إنه التقى صدفة بالنائب فخري البارودي في شارع رامي وهنأه على موقفه (الدعوة للمبارزة) "وسأله ماذا كنت تفعل لو أن المسيو موغان وافق على مبارزتك. وأنت لا تعرف استعمال السلاح كما هو معروف عنك ؟ فأجاب البارودي" لقد كنت مطمئناً لأن اختيار السلاح من حقي حسب قواعد المبارزة "فسألته" وأي السلاح كنت تختار؟ "فقال البارودي" كنت اختار الصرامي "الأحذية" لأنها أضمن سلاح !…".
كاتب سوري