الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الخوارج.. نزعات وشعارات التكفير والتحقير

الخوارج.. نزعات وشعارات التكفير والتحقير

01.05.2019
د. علي الصلابي


         
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الثلاثاء 30/4/2019
حمل الخوارج صفات خاصة تميزهم عن باقي الفرق والجماعات الدينية في تاريخ المسلمين، وإنّ الباحث في تاريخ فرقة الخوارج يلاحظ عدة صفات اتصف بها أتباع هذه الفرقة، منها:
الغلو في دين الإسلام:
مما لا شك فيه أنّ الخوارج أهل طاعة وعبادة، فقد كانوا حريصين كلّ الحرص على التمسك بالدين وتطبيق أحكامه، والابتعاد عن جميع ما نهى عنه الإسلام، وكذلك التحرُّز التامّ عن الوقوع في أي معصية أو خطيئة تخالف الإسلام، حتى أصبح ذلك سمة بارزة في هذه الطائفة لا يدانيهم في ذلك أحد، ولا أدلَّ على ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقرؤون الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلى قراءتهم بشيء، وَلا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ).
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- يصفهم حينما دخل عليهم لمناظرتهم: "دخلت على قوم لم أرَ قط أشد منهم اجتهاداً، جباههم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثَفِنُ الإبل، وعليهم قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ، مشمِّرين، مسهمة وجوههم من السهر"، وعن جندب الأزدي قال: "لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فانتهينا إلى معسكرهم، فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن".
فقد كانوا أهل صيام وصلاة وتلاوة للقران، لكنهم تجاوزوا حدّ الاعتدال إلى درجة الغلوّ والتشدّد، حيث قادهم هذا التشدد إلى مخالفة قواعد الإسلام بما تمليه عليهم عقولهم، كالقول بتكفير صاحب الكبيرة، وسيأتي مناقشة عقائدهم وأفكارهم بإذن الله تعالى.
ومنهم مَن بالغ في ذلك حتى قال بأن كلّ مَن ارتكب ذنباً من الذنوب ولو كان صغيراً، فإنه كافر مشرك مخلد في النار!! وكان من نتيجة هذا التشدّد -الذي خرج بهم عن حدود الدين وأهدافه السامية- أن كفّروا كل مَن لم ير رأيهم من المسلمين، ورموهم بالكفر أو النفاق، حتى أنّهم استباحوا دماء مخالفيهم، ومنهم مَن استباح قتل النساء والأطفال من مخالفيهم كالأزارقة مثلاً.
ولا شك أنّ الخوارج بما اتصفوا به من الجهل والتشدّد والجفاء قد شوهوا محاسن الدين الإسلامي تشويهاً غريباً، فإنّ هذا الإغراق في التأويل والاجتهاد أخرجهم عن روح الإسلام وجماله واعتداله، وهم في تعمُّقهم قد سلكوا طريقاً ما قال به محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا دعا إليه القرآن الكريم، وأما التقوى التي كانوا يظهرون بها فهي من قبيل التقوى العمياء، والصلاح الذي كانوا يتزينون به في الظاهر كان ظاهر التأويل بادي الزخرفة، وقد طمعوا في الجنة وأرادوا السعي لها عن طريق التعمق والتشدد والغلو في الدين غلوّاً أخرجهم عن الحد الصحيح.
ولذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من التعمّق والتشدّد في الدين، لأنّه مخالفة للاعتدال وسماحة الإسلام، وأخبر أنّ المتنطّع مستحقّ للهلاك والخسران، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (هَلَكَ المتنطّعون) قالها ثلاثاً.
فبهذا يتبيّن لنا شذوذ الخوارج، وكذلك مَن سار على منهجهم المبني على التعسّف والتشدّد المخالف لسماحة الإسلام ويسره، فإنّ الإسلام دين اليسر والسماحة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا).
الجهل بدين الإسلام:
إنّ من كبرى آفات الخوارج صفة الجهل بالكتاب والسُّنة، وسوء فهمهم وقلّة تدبّرهم وتعقّلهم، وعدم إنزال النصوص منازلها الصحيحة، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يراهم شرار خلق الله، وقال: "إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين"، وكان "ابن عمر" إذا سُئل عن الحرورية؟ قال: "يكفّرون المسلمين، ويستحلون دماءهم وأموالهم، وينكحون النساء في عِدَدِهِنّ، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج، فلا أعلم أحداً أحقَّ بالقتال منهم".
ومن جهلهم بشرع الله: رأوا أنّ التحكيم معصية تستوجب الكفر، فيلزم مَن وقع فيه أن يعترف على نفسه بالكفر، ثم يستقبل التوبة، وهذا ما طالبوا به عليّاً رضي الله عنه، إذ طلبوا منه أن يُقرّ على نفسه بالكفر ثم يستقبل التوبة، فتخطئة الخوارج له ولمن معه من المهاجرين والأنصار واعتقادهم أنّهم أعلم منهم وأولى منهم بالرأي هو والله عين الجهل والضلال.
ومن جهالتهم الشنيعة: أنّهم وجدوا عبد الله بن خباب -رضي الله عنه- ومعه أم ولد حُبلى، فناقشوه في أمور، ثم سألوه رأيه في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فأثنى عليهما خيراً، فنقموا عليه، وتوعّدوه بأن يقتلوه شرّ قتلة، فقتلوه وبقروا بطن المرأة، ومرّ بهم خنزير لأهل الذمة فقتله أحدهم، فتحرجوا من ذلك وبحثوا عن صاحب الخنزير وأرضوه في خنزيره! فيا للعجب! أتكون الخنازير أشدّ حرمة من المسلمين عند أحد يدعي الإسلام؟ لكنّها عبادة الجهال، التي أملاها عليهم الهوى والشيطان.
قال "ابن حجر": إنّ الخوارج لما حكموا بكفر مَن خالفهم، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة فقالوا: نَفِي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسّكوا بحبل وثيق منه، وكفى أنّ رأسهم ردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ونسبه إلى الجَوْر، نسأل الله السلامة.
وقال عنهم "ابن تيمية" رحمه الله: فهم جُهّال، فارقوا السُّنة والجماعة عن جهل، وبهذا يتبيّن أنّ الجهل كان من الصفات البارزة في تلك الطائفة التي هي إحدى الطوائف المنتسبة إلى الإسلام، فالجهل مرض عضال يهلك صاحبه من حيث لا يشعر، بل قد يريد الخير فيقع في ضده.
 شَقّ عصا الطاعة في الدولة والأمة:
قال "ابن تيمية": فهؤلاء من ضلالهم اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنّهم خارجون عن العدل، وأنّهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السُّنة من الرافضة ونحوهم، ثم يعدّون ما يرون أنّه ظلم عندهم كفراً، ثم يرتّبون على الكفر أحكاماً ابتدعوها، هذا وقد شقّوا عصا الطاعة، وسعوا في تفريق كلمة المسلمين، ويوضّح ذلك موقفهم مع أمير المؤمنين عَلِيّ، حيث تخلوا عنه وخالفوه في أحرج المواقف وعصوا أمره، وظلّت تلك الصفة من صفاتهم على مدار التاريخ، أنّ كل مَن خالفهم في أمر عادُوه ونبذوه، حتى أنّهم تفرقوا هم أنفسهم إلى عدّة فِرَق يكفّر بعضهم بعضاً، ولذلك كَثُرَ فيهم الغارات والشقاق والثورات.
 التكفير بالذنوب واستحلال دماء المسلمين وأموالهم:
قال "ابن تيمية": والفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع أنّهم يكفّرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأنّ دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان، وكذلك يقول جمهور الرافضة ... فهذا أصل البدع التي ثبتت بنص سُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإجماع السلف أنّها بدعة، وهو جعل العفو سيئة، وجعل السيئة كفراً.
وقد تميّز الخوارج بآراء خاصة فارقوا بها جماعة المسلمين، ورأوها من الدين الذي لا يقبل الله غيره، ومن خالفهم فيها فقد خرج من الدين في زعمهم، فأوجبوا البراءة منه، بل إنّ منهم مَن غلا في ذلك، فأوجبوا قتال من خالفهم واستحلّوا دماءهم، فمن ذلك أنّهم قتلوا عبد الله بن خباب بغير سبب غير أنّه لم يوافقهم على رأيهم، وقال ابن كثير: فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقُرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم.
وقال "ابن تيمية": وكانت البدعة الأولى مثل بدعة الخوارج، إنّما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنّوا أنّه يُوجب تكفير أرباب الذنوب، إذ كان المؤمن هو البرّ التقيّ، قالوا: فمن لم يكن برّاً تقيّاً فهو كافر وهو مخلد في النار، ثم قالوا: وعثمان وعلي ومن وَالَاهُمَا ليسوا بمؤمنين، لأنّهم حكموا بغير ما أنزل الله، فكانت بدعتهم لها مقدمتان:
الأولى: أنّ مَن خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر.
الثانية: أنّ عثمانَ وعليّاً ومن وَالَاهُما كانوا كذلك.
ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المؤمنين بالذنوب والخطايا، فإنّه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفّرَ أهلُها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقد ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث صحيحة في ذمّهم والأمر بقتالهم.
 الطعن والتضليل:
من أبرز صفات الخوارج الطعن في أئمة الهدى وتضليلهم والحكم عليهم بالخروج عن العدل والصواب، وقد تجلَّت هذه الصفة في موقف "ذي الخويصرة" مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حيث قال "ذو الخويصرة": يا رسول الله اعدل!! فقد عَدَّ "ذو الخويصرة" نفسه أَوْرَعَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجَوْر والخروج عن العدل في القسمة!
وهذه الصفة قد لازمتهم عَبْر التاريخ، وقد كان لها أسوأ الأثر لما ترتب عليها من أحكام وأعمال.
سوء الظنّ:
هذه صفة أخرى للخوارج تجلّت في حكم "ذي الخويصرة" الجَهُول على رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- بعدم الإخلاص، حيث قال: والله إنّ هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فذو الخويصرة الجَهُول لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعطى السادة الأغنياء، ولم يعطِ الفقراء، لم يحمل هذا التصرف على المحمل الحسن، وهذا شيء عجيب خصوصاً وأنّ دواعيه كثيرة، فلو لم يكن إلا أنّ صاحب هذا التصرف هو رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- لكفى به داعياً إلى حسن الظن، ولكنّ "ذا الخويصرة" أبى ذلك، وأساء الظن لمرضه النفسي، وحاول أن يستر هذه العلّة بستار العدل، وبذلك ضحك منه إبليس، واحتال عليه، فأوقعه في مصايده.
فينبغي للمرء أن يراقب نفسه، وأن يدقّق في دوافع سلوكه ومقاصده، وأن يحذر هواه، وأن يكون منتبهاً لحيل إبليس، لأنّه كثيراً ما يُزيّن العمل السيئ بغلافٍ حَسَن برّاق، ويبرر السلوك القبيح باسم مبادئ الحق، ومما يعين المرء على وقاية نفسه والنجاة لها من حيل الشيطان ومصايده: العلم، فذو الخويصرة لو كان عنده أَثَارة من علم أو ذرّة من فهم لما سقط في هذا المزلق.
الشدة على المسلمين:
عُرف الخوارج بالغلظة والجفوة، وقد كانوا شديدي القسوة والعنف على المسلمين، وقد بلغت شدّتهم حدّاً فظيعاً، فاستحلّوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، فروَّعوهم وقتلوهم، أمّا أعداء الإسلام من أهل الأوثان وغيرهم فقد تركوهم و وَادَعُوهم فلم يُؤذُوهم.
لقد سجّل التاريخ صحائف سوداء للخوارج في هذا السبيل، وما قصة "عبد الله بن خبّاب" ومقتله عنا ببعيد، فمعاملة الخوارج للمسلمين مصحوبة بالقسوة والشدّة والعنف، وأما للكافرين فلين وموادعة ولطف، فقد وصف الشارع الشريعة بأنّها سهلة سمحة، وإنّما ندب إلى الشدة على الكفار، وإلى الرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، فالخوارج عكسوا الآيات، فأرهبوا المسلمين وروَّعوهم.
هذه بعض الصفات التي اشتهر بها الخوارج، وقد تميّزوا بنزعات خاصّة بين طوائف من أبناء المسلمين، وبأشكال ومظاهر مختلفة، من جماعات وأفراد ودعوات وحركات واتجاهات وشعارات ومناهج وأساليب ومواقف وتصرفات، ونزعات فردية وجماعية، ونحو ذلك من أمور تنذر بخطر، فكانت بدايات ظهور البذور العقدية والسلوكية التشويهية الخاطئة في تاريخ الأمة، كالتشدّد في الدين على النفس، والتعسير على الآخرين، والغرور، وضعف الحكمة، والاستبداد بالرأي، وتجهيل الآخرين، والطعن في العلماء، وسوء الظن فيهم، والحدّية في التعامل مع الآخرين، وصعوبة مَدّ جسور التفاهم معهم، وقابلية الانشطار والتفرّق، وسهولة الجَوْر على الآخرين والتكفير، وغير ذلك من مظاهر الغلو والتطرّف التي أنهكت الأمّة في عصرها الأول وحتى يومنا هذا.