الرئيسة \  مشاركات  \  الحياد الرجولي : قراءة في مبادئ وثوابت السياسة الخارجية العمانية

الحياد الرجولي : قراءة في مبادئ وثوابت السياسة الخارجية العمانية

26.10.2016
أ .محمد بن سعيد الفطيسي




       عندما وضع مؤسس وباني نهضة الدولة العمانية الحديثة , حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – اسس ومبادئ السياسة الخارجية العمانية كما اشرت الى ذلك في دراسة لي تحت عنوان : المبادئ المؤسسة للسياسة الخارجية العمانية في الخطابات السلطانية في الفترة من1970م - 1975م (1) فيما اطلقت عليها بمرحلة التخلص من اطواق العزلة السياسية او الأحادية التي عاشتها سلطنة عمان اختياريا في جانب التأثير السياسي فقط وليس عزلة العلاقات الدبلوماسية او الدولية (2) نتيجة الظروف السياسية والتدخلات الخارجية التي مرت بها في تلك الفترة والتي اشار اليها صاحب الجلالة – حفظه الله – بنفسه في العديد من خطاباته . كخطابه بمناسبة العيد الوطني الاول بتاريخ 23/7/1971م بقوله : انه ليحز في نفوسنا انه في هذه اللحظة التي نحتفل فيها بهذا اليوم المجيد . يتعرض اخوة لنا وابناء لصنوف القهر والارهاب والمهالك من جراء تسلط عناصر غريبة دخيلة عليهم من الانتهازيين والماجورين والملحدين , , وكذلك في قوله - حفظه الله : الكل يعلم ان العزلة التي فرضت على عمان حالت دون أي اعتبار لمعالم سياسة خارجية , وقد بذلنا الجهد لفك أطواق العزلة , يضاف الى ذلك التوجه الوطني المستقل والداخلي لجهود السياسة العمانية التي اراد لها صاحب الجلالة - حفظه الله- منذ بداية بناء وتأسيس الدولة العمانية الحديثة ان تتفرغ لبناء الداخل بعيدا عن أي ارباكات خارجية للطموح والسلام .
      وفضلت حينها ان اصف تلك الفترة بالانعزالية الطوعية او الأحادية العمانية في جانب التأثير السياسي فقط , وليس عزلة العلاقات الدولية او الدبلوماسية , كون الانعزالية مبدا تحكمه المواقف والظروف ,ويتناقض مع مفهوم الانعزال او العزلة السياسية السلبية , فهذه الاخيرة هي :- ( نقيض التفاعلات الدولية وهي بالتأكيد خلاف الوضع الطبيعي لأي كيان سياسي فضلا عن أية دولة , ولطالما قيست قوة الدول بقدرتها على التأثير في مجمل العلاقات الدولية ) (3) سواء كان ذلك التأثير عبر سياسات ناعمة او صلبة . وقد جاء هذا الوصف بكل وضوح في خطاب صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله- بمناسبة العيد الوطني الثاني بتاريخ 18 / 11 / 1972م بقوله حفظه الله : كان لزاما علينا ان نبتدئ من الاساس ومن واقعنا . وهذا الاساس هو الشعب العماني , وقد سلكنا مختارين اصعب السبل لنخرج به من عزلته . كما ان قاموس أكسفورد للغة الانجليزية كانت إشارته الأولى واضحة للمفهوم في العام 1901م , حيث اشار الى العزلة السياسية بقوله : من هنا ...الانعزالي الشخص الذي يفضل العزلة او يدافع عنها . وهو ما لا يمكن بحال من الاحوال ان توصف به التوجهات والمبادئ والاسس التي قامت عليها السياسة الخارجية العمانية من خلال ما نطلق عليه بمصطلح توسم الامة او توسيم الامة العمانية في واجهتها السياسية والتي وضعها عاهل البلاد – حفظه الله – في الخطابات السلطانية التأسيسية .
         كما ان المبادئ الخمسة التأسيسية (4) التي قامت عليها القيم والركائز الأخلاقية ومبادئ السياسية العمانية في جانب العقيدة المؤسسة للسياسية العمانية الخارجية كما سبق وشرنا , تؤكد ذلك بكل صراحة ووضوح . حتى ان الالتزام بالخط الذي تسير عليه دول العالم الثالث وهو خط الحياد , والذي يعد من ابرز مبادئ السياسة الخارجية العمانية كما اشار اليه المبدأ الخامس منها , واكده النظام الاساسي للدولة (5) في المبادئ السياسية . وكذلك قانون تنظيم وزارة الخارجية (6) , وكما جاء على لسان صاحب الجلالة : بان الالتزام بذلك الخط , أي ,عدم الانحياز لا يعني الانقياد التام للمفهوم من خلال نزع الشخصية الوطنية العمانية وخصوصيتها ومصالحها السياسية وأهدافها الجيوسياسية . حيث أكد قائلا حيال هذا المفهوم : ان عمان حضرت مؤتمر عدم الانحياز وساهمت فيه , وعمان تحبذ الحياد وعدم الارتماء في أحضان المعسكرين – المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الاميريكية وأوربا والمعسكر الشرقي الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي والصين – ولكن وهي النقطة التي فصلت بين الانقياد لهذا المفهوم واستقلال الشخصية السياسية العمانية , ولكن كما قال صاحب الجلالة أعيد كلمة قلتها قبل قليل بان : لكل واحد أصدقاء (7)
        وحتى نتعرف بشكل اكثر دقة ووضوح ولو بشكل موجز حول مفهوم مبدا الانعزالية وبالتالي شكل الدول التي يمكن ان توصف سياساتها بالسياسات الانعزالية , وماذا قصد بهذا المفهوم من الناحية السياسية , فانه لابد من العودة ولو قليلا الى بعض الجذور التاريخية التي تطور معها هذا المفهوم . حيث لاحظنا ومن خلال تتبع اصول هذا المبدأ انه برز بشكل واضح في القرن 19م – 1801/ 1900م مع الدعاية التي اثارها بحارة مثل الكابتن الفريد ثاير ماهان , وهو ضابط ومؤرخ وجيوستراتيجي في البحرية الأمريكية ، والذي اراد ان يلصق بنقاده المعادين للكولونيالية Colonialism  والتي تعني الاستعمار والسيطرة والهيمنة والسعي للحروب والصراعات , ويرادفها في العصر الحديث مفهوم الامبريالية Imperialism , باعتبارها صفة تقول انهم افظاظ من الطراز القديم , وعلى هذا اعلنت صحيفة واشنطن بوست في وقت الحرب الاسبانية – الاميركية ان : سياسة العزلة قد ماتت (8) والتي قصد بها في وقتها ما اطلق عليه واشتهر قبل ذلك بمبدأ الحياد الرجولي , حيث ان مبدا الانعزالية لم يذكر حتى تسعينيات القرن التاسع عشر , وان الكلمة نفسها دخلت الاستخدام العام فقط في ثلاثينيات القرن العشرين , بالرغم من ان انعزاليى ثلاثينيات هذا القرن لا يستخدمون هذا اللفظ " انعزالي "ويفضلون ان يسموا انفسهم بالحياديين او القوميين .
      وقد اشار الى مبدا الحياد الرجولي او الاحادية الرئيس الاميريكي جورج واشنطن اثناء حرب الاستقلال الاميركية بقوله : ان موقفنا المنعزل والمتباعد يدعونا ويمكننا من ان نتبع منهجا اخر , لماذا نضيع مزايا هذا الوضع الخاص جدا ؟ لماذا نهجر ما لدينا لنقف على ارض غيرنا ؟ لماذا نشبك مصيرنا باي جزء من اوروبا , ونربك سلامنا وازدهارنا بمكايدات الطموح والتنافس والمصلحة والدعابة , او الهوى الاوربي . وقد عبرت رسالة او وثيقة الوداع له عن هذه القيم والمبادئ بكل وضوح خصوصا في النقطة الاولى والتي قال فيها انه : يجب ان تكون السياسة الخارجية الدرع الذي لا غنى عنه للجمهورية , ولكن الحماقة والتحيز والتحزب والطموح المتعجل يمكن ان تحول السياسة الخارجية الى خطر على الاستقلال والحرية (9)
        وسار على ذلك النهج عدد من كبار القادة السياسيين المؤسسين الاميركيين والبريطانيين من امثال رئيس الوزراء البريطاني روبرت والبول والرئيس الاميركي بنجامين فرانكلين . فالأحادية او الانعزالية لا تعن ابدا ان الولايات المتحدة يجب ان او سوف تعزل نفسها او تتبع سياسة محاكاة النعامة تجاه الاقطار الاجنبية , انها تعني ببساطة كما اكد كل من الاباء المؤسسين للولايات المتحدة الاميركية من امثال هاملتون وجيفرسون ان مسيرة الولايات المتحدة الواضحة كانت ان تتجنب الاحلاف المربكة الدائمة , وان تبقى محايدة في حروب اوروبا الا عندما تكون حريتنا في خطر , وكذلك سياسة بريطانيا التي استغلت مزايا كونها جزيرة منعزلة , لتغذي توازن القوى في القارة الاوربية , بينما تتجنب الحروب على الارض قدر الامكان , وتعمد على بحريتها وتسيطر على تجارة العالم , وهو ما عبر صاحب الجلالة حفظه الله كما اشرنا سلفا بقوله : ان الالتزام بذلك الخط , أي ,عدم الانحياز لا يعني الانقياد التام للمفهوم من خلال نزع الشخصية الوطنية العمانية وخصوصيتها ومصالحها السياسية وأهدافها الجيوسياسية .
       ويفسر والتر.أ.مكدوجال في كتابه ارض الميعاد – امريكا في مواجهة العالم منذ العام 1776م في هذا السياق اسباب مبدا الحياد الرجولي او الاحادية الاميركية حينها بقوله : ان الحياد هو الطرق الوحيد الاخلاقي والبراجماتي النفعي للامة الجديدة , فعقد الاحلاف لا يمكن الا ان ياتي بالفساد في الداخل والخطر من الخارج , بينما الحياد يحمي الحرية والنمو القومي , فهل كانت هذه الخيارات السياسية سهلة دائما بحيث يستطيع المرء ان يكون ناجحا عندما يفعل الشيء الصحيح ؟ وقد عبر المفوض السويدي في لندن في العام 1748م لجون ادامز الذي كان يسير على نفس النهج بقوله , سيدي : انني اعده امرا مسلما به انك سوف يكون لديك الاحساس الكافي لترانا في اوروبا يقطع كل منا رقبة الاخر , بينما تراقبنا بهدوء فلسفي (10)
        لذا يمكن القول : ان العزلة او الانعزالية التي تطرق اليها باني ومؤسس الدولة العمانية الحديثة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد - حفظه الله - والتي سعى الى فك اطواقها وتحطيم قيودها منذ سبعينيات القرن الماضي لإخراج الامة والشعب العماني منها هي عزلة التأثير السياسي الطوعي الذي عاشته عمان في الفترة التي سبقت توليه مقاليد الحكم , وليس انعزالية العلاقات الدولية . بالتالي فان السياسة الخارجية العمانية منذ العام 1970م لم تعزل نفسها سلبيا او تتبنى موقف الانعزالية او الحياد السلبي عن العالم لا في علاقاتها ولا في مواقفها السياسية تجاه مختلف القضايا الدولية , بل هي في غالب ذلك تسير وفق منهج احادي مستقل .ثابت الاستراتيجيات القيمية والتقاليد السياسية , هو اقرب ما يكون الى مكون من المواقف التقليدية التاريخية الملائمة لتوجهات ومبادئ وقيم الامة العمانية الحضارية والشعب العماني الاصيل , كالحياد الرجولي والانعزالية الايجابية , مع التأكيد على تكتيكية الحركة والتغيير الذي تتطلبه العلاقات الدولية والمصالح الجيوسياسية الوطنية .
        بحيث اننا وبكل تأكيد لا يمكن ان نعزل انفسنا عن الاستثناءات والتناقضات التي لا يمكن ان تخلو منها سياسات وتوجهات الدول قديما وحديثا , ولكن دائما ما تبقى الثوابت الاخلاقية والقيم السياسية الوطنية هي الثابت التي تتحرك بناء عليه السياسة الخارجية العمانية في علاقاتها ومواقفها الخارجية مع الدول والسياسات والتوجهات العالمية , وان وصف سياساتها ومواقفها الراهنة تجاه العيد من القضايا الاقليمية والدولية بالانعزالية السلبية او العزلة السياسية اشبه ما تكون بالدعاية التافهة التي اثارها بحارة مثل الكابتن الفريد ثاير ماهان الذي اراد ان يلصقها بنقاده المعادين للكولونيالية او الامبريالية او الاستعمارية التوسعية الذين رفضوا الدخول في موجة الحروب والصراعات الاوربية في وقتها وارباك انفسهم بتحالفات عسكرية وسياسية فضفاضة (11) لا تخدم مصالحهم الجيوسياسية او تتوافق والثوابت والتقاليد التاريخية لسياساتهم الخارجية .
______________
مراجع الدراسة :
(1) محمد بن سعيد الفطيسي , المبادئ المؤسسة للسياسة الخارجية العمانية في الخطابات السلطانية في الفترة من1970م - 1975م , صحيفة الوطن العمانية , www.alwatan.com  بتاريخ  30 / 3 / 2015م 
(2) في جانب العلاقات الدبلوماسية والدولية افتتحت الخارجية العمانية في العام 1972م سبع بعثات دبلوماسية في كل من الكويت وتونس والقاهرة ولندن ونيويورك وايران والهند , كما افتتحت عدد من الدول سفارات لها في سلطنة عمان وهي : المملكة المتحدة والهند وباكستان وايران والاردن والولايات المتحدة الاميريكة وجمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية , اما فرنسا وهولندا فقد اقامتا علاقاتهما الدبلوماسية بسفراء غير مقيمين – المرجع خطاب صاحب الجلالة بمناسبة العيد الوطني الثاني بتاريخ 18 / 11 / 1972م
(3) د. اسامة عثمان , العزلة الدولية.. فاعليّتُها وسبلُ التعامل معها , موقع اسلام ديلي , www.islamtoday ,  بتاريخ 25/ 7 / 2009م
(4) خطاب صاحب الجلالة بمناسبة العيد الوطني الثاني بتاريخ 18 / 11 / 1972م
(5) النظام الاساسي لسلطنة عمان , رقم 101 / 1996م , المادة 10 المبادئ السياسية الموجهة لسياسة الدولة
(6) قانون تنظيم وزارة الخارجية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 32/2008 في المادة 4
(7) خطاب صاحب الجلالة بمناسبة العيد الوطني الثاني بتاريخ 18 / 11 / 1972م
(8) صحيفة الواشنطن بوست .عدد  2 / 6 / 1898م
(9)صحيفة بنسلفانيا بوكيت بتاريخ 19 / 9 / 1796م تحت عنوان : الجنرال واشنطن لشعب الولايات المتحدة لسنواته الرئاسية للولايات المتحدة
(10) والتر.أ.مكدوجال , ارض الميعاد والدولة الصليبية – امريكا في مواجهة العالم منذ العام 1776م , ترجمة :رضا هلال , دار الشروق/القاهرة , ط2/2001م
(11) للرجوع الى التحالفات الفضفاضة .انظر :محمد بن سعيد الفطيسي , التاريخ الموجز للأنظمة القطبية (1800م – 2020م ) المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية , www.eipss-eg.com , بتاريخ 26 / 9 / 2016م .
__________
*باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية