الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الحلف الروسي التركي والمعادلة الآسيوية

الحلف الروسي التركي والمعادلة الآسيوية

03.01.2017
د. السيد ولد أباه


الاتحاد
الاثنين 2/1/2017
في تلخيص دقيق للعلاقات الروسية التركية، اشتهرت قولة بوتنيوف، سفير القيصر لدى السلطنة العثمانية، عام 1839: لا توجد منطقة وسطى في علاقة روسيا بالدولة العثمانية، فروسيا إما أن تكون الصديق الأول لتركيا أو عدوها الأول. كلام بوتنيوف يفهم في سياقه التاريخي عندما لجأت السلطنة إلى الاستعانة بجارها القوي الذي خاض معه حروباً طويلة، من أجل التحالف معه في مواجهة تهديد فرنسا بعد حملة نابليون على مصر، والتي كانت بداية تفكك بطيء قضى بعد قرابة قرن ونصف على الإمبراطورية الإسلامية الكبرى.
كثيرون استغربوا من انتقال علاقات حاكم أنقرة القوي أوردغان والزعيم الروسي بوتين من العداء والقطيعة إلى التحالف الوثيق الذي تركز في الجبهة السورية وسمح بالاتفاق الهش الذي أعلن مؤخراً بين النظام السوري ومعارضته في أفق المفاوضات المتوقعة نهاية هذا الشهر في مدينة الأستانة.
بيد أن ملاحظة بوتنيوف تصدق هذه المرة أيضاً، رغم أن الانتماء الأطلسي والتوجه الأوروبي يمثلان محددين رئيسيين (بالإضافة إلى علمانية الدولة) من المحددات الثابتة للدولة التركية الحديثة التي أسسها أتاتورك.
هل تشكل الشراكة مع روسيا والتوجه نحو آسيا الوسطى منعرجاً استراتيجياً في مسار الدولة التركية، أم أن الأمر يتعلق بمجرد خطوات تكتيكية ظرفية اقتضتها تأثيرات الملف السوري بخصوص الأمن الحيوي التركي، خصوصاً ما يتعلق منه بالموضوع الكردي؟
من الصعب الإجابة الحاسمة على هذا الإشكال، وما يرتبط به من علاقة الحليفين الروسي والتركي بإيران التي كانت شريكاً مباشراً في إدارة الملف السوري، فلا تزال كثير من المعطيات المستقبلية غامضة، وفي مقدمتها سياسة رئيس أميركا القادم ترامب حيال روسيا ومنطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تطورات الأوضاع الأوروبية وأثرها على المشروع الاندماجي الأوروبي المتعثر.
ما يبدو جلياً الآن هو أن التوازنات الجيوسياسية الدولية التي بدأت في التشكل بعد نهاية الحرب الباردة قد انهارت كلياً، وهي في عمومها تقوم على محددات ثلاث: قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي في دوائره السياسية والاقتصادية والأمنية ومنظوماته الإقليمية، تراجع روسيا إلى قوة إقليمية محدودة التأثر في مجالها الحيوي المباشر (أي الجمهوريات المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي السابق)، بروز مشروع أوروبي في طور التوسع له امتداداته المتوسطية وذراعه الأطلسية.
وإذا كانت تركيا الأردوغانية حافظت في مرحلة أولى على الإرث الأتاتوركي، بتوطيد هويتها الأطلسية وتنشيط علاقاتها الأوروبية في أفق الطموح لعضوية الاتحاد الأوروبي، فإنها بدأت منذ العقد الماضي خطوات انفتاح قوية على منطقتي آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وهما منطقتان ترتبطان تاريخياً بالمجال العثماني وتتداخلان استراتيجياً وثقافياً بالعالم التركي. من هذا المنظور، لم تنظر روسيا بعين الارتياح للدور التركي في دول آسيا الوسطى المسلمة المنتمية لمجالها الحيوي الأقرب، كما تصادمت مع تركيا في إدارة أزمات الربيع العربي إلى حد المواجهة العسكرية غير المباشرة.
الحلف الروسي التركي الجديد إذا كان يفهم من منظور الأزمة الحادة التي عرفتها علاقات أنقرة بشركائها الغربيين بعد محاولة الانقلاب العسكري للإطاحة بأردوغان (15 يوليو 2016)، كما يرتبط مباشرة بتداعيات الملف السوري، فإنه يندرج في بعد استراتيجي أوسع هو انتقال المحور الجيوسياسي العالمي إلى آسيا، بما يضع تركيا في قلب معادلة دولية معقدة تضبطها العلاقات بين القوى الثلاث المتنافسة على التحكم في المجال الآسيوي: الولايات المتحدة وروسيا والصين.
المعادلة الجديدة هي في حقيقتها عودة إلى طبيعة النظام الدولي قبل الصعود الأوروبي في نهاية القرن الثامن عشر، والذي قام على التحكم في المنافذ والمضايق البحرية الشرق أوسطية الحاسمة في التجارة الدولية، بما أنجر عنه تحكم القوى الأوروبية الصاعدة في طريق الهند، وإنهاء طريق الحرير الصينية، وتجريد تركيا من جناحيها الأوروبي المتوسطي والآسيوي الأوسط.
ما نلمسه اليوم في المرحلة البوتينية، هو خروج روسيا من طموحها الأوروبي الذي سيطر على الحكومات الانتقالية بعد نهاية العصر السوفييتي، لتوطيد حضورها الآسيوي واستثماره في قواعد اللعبة الدولية الجديدة، بينما خرجت تركيا أيضاً من طموحها الأوروبي من أجل التموقع في المجال الآسيوي الجديد، ولو في حدود الدور أو الهامش المسموح به روسياً.
بقي الحديث عن الدورين الأميركي والصيني في المعادلة الآسيوية الجديدة (يتواصل).