الرئيسة \  تقارير  \  الحقيقة المغيّبة.. خفايا حكم الرئيس السوري الأسبق أديب الشيشكلي

الحقيقة المغيّبة.. خفايا حكم الرئيس السوري الأسبق أديب الشيشكلي

02.07.2022
شام مصطفى


شام مصطفى
الجزيرة
الخميس 30/6/2022
عرفت سوريا الحديثة منذ عام 1949 وحتى 1970 سلسلة من الانقلابات العسكرية التي لا تزال محل جدل كبير بين المؤرخين المعاصرين، وصدر حديثا للمؤلفَين السوريين بسام برازي وسعد فنصة كتاب "أديب الشيشكلي.. الحقيقة المغيبة" الذي يتناول سيرة الرئيس السوري الأسبق أديب الشيشكلي، وامتد في 575 صفحة من القطع الكبير.
واعتمد مؤلفاه على آلاف الوثائق (قرابة ألفي وثيقة) من الخارجية الأميركية والفرنسية والبريطانية، إضافة للشهادات الحية التي قدمها معاصرون لفترة حكم أديب الشيشكلي، واحتوت الوثائق والشهادات كثيرا من المعلومات التي تُنشر للمرة الأولى.
وعن أهمية ما قدمه الكتاب عن فترة حكم أديب الشيشكلي لسوريا (استولى على السلطة على دفعات منذ عام 1951 وحتى عام 1954)، يقول سعد فنصة للجزيرة نت إن القارئ العربي في الكتاب "أمام الصورة الأصدق للحوادث التاريخية التي عصفت بسوريا بعد الاستقلال، والصراعات السياسية بين الأحزاب مرورا بهزيمة فلسطين".
ويفتح الكتاب -بحسب فنصة- الباب أمام رؤية مختلفة عمّا نُقل للناس من معلومات دوّنتها أقلام خرجت من عباءة النظام الرسمي، "والذي قام بتغييب مراحل سابقة من تاريخ سوريا، ليجعل من الدور التدميري لحزب البعث -الذي استمر لما يقارب الستين عاما وحتى اليوم- ومن جاء إلى الحكم باسمه، هو البطل والمنقذ الذي لا بطولة إلا بطولته ولا تاريخ يكتب إلا تاريخه. وهي العقلية شديدة النرجسية والتخلف، أودت بالبلاد والعباد إلى حالة من الجنون السياسي والعبثية التي يحياها السوريون اليوم".
وبحسب الكاتب والمؤرخ سعد فنصة، فإن الكتاب يسعى إلى الإحاطة بحقبة سوريا ما بعد الاستقلال وخاصة سيرة الرئيس السوري الأسبق أديب الشيشكلي مذ كان عقيدا في الجيش وحتى وصوله إلى سدة الحكم بعد 4 أعوام من تنفيذه انقلابا عسكريا في ديسمبر/كانون الأول 1949، وإلى تسليط الضوء على أبرز إنجازاته في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إضافة للكشف عن العديد من الحقائق التي كانت "مغيبة" عن القارئ العربي لعقود حول تلك الشخصية البارزة في التاريخ السوري والعربي وفترة حكمها.سوريا في عصرها الذهبي
أولى أديب الشيشكلي الاقتصاد أهمية كبرى منذ تسلمه منصب رئيس الجمهورية العربية السورية عام 1953، فوجّه الحكومة لدعم الاستثمار الحر في البلاد وسنّ القوانين المساهمة في تنظيمه ومراقبته، وأعاد قضية الموازنة العامة إلى دائرة النقاش النيابي بعد سنوات من غيابها، كما أصدر مراسيم ووجه إيعازات للاهتمام بشؤون التموين وتشجيع الصناعات المحلية وزيادة الإنتاج ومحاسبة المحتكرين.
ويذكر المؤلّفان تأثر الشيشكلي بنصائح الخبير الألماني شاخت التي دفعته لإقامة العديد من المشاريع الزراعية والصناعية التي أشرف عليها شخصيا، متسلحا بمعرفته الأكاديمية باعتباره واحدا من خريجي المدرسة الزراعية في مدينة السلمية بمحافظة حماة السورية، فتمكن من تطوير النشاط والإنتاج الزراعي في البلاد وتحديد الأسعار وتأمين البذار للمزارعين بعد سنوات شهد خلالها القطاع الزراعي ركودا متأثرا بالفساد والإهمال الحكوميين.
كما شهد القطاع المصرفي تطورا بارزا على عهد الشيشكلي، فكان للرئيس الأسبق الفضل في إنشاء مصرف سوريا المركزي الذي حافظ على الاستقرار النقدي في الدولة وعزز النمو الاقتصادي وأسهم في تخفيض نسب البطالة، بينما انصرفت دوائر ومؤسسات الدولة المعنية -بتوجيهات من الشيشكلي- إلى دراسة القوانين والمراسيم المتعلقة بفرض الضرائب التصاعدية على العقارات وضريبة الدخل، وإصدار قانون تحسين أحوال الموظفين من العاملين في قطاعات الدولة ومؤسساتها قبل دراسة الموازنة العامة للبلاد والتصديق عليها.
خطوات وقرارات وضعت البلاد في مركز متقدم بين الدول النامية، وجعلت مهاتير محمد -رئيس الوزراء الماليزي الأسبق ومهندس النهضة الماليزية- يقرّ بتأثره بتجربة الشيشكلي ورؤيته الشاملة والطموحة بعد زيارته سوريا عام 1952، "فأقسم صاحب الفضل في النهضة الماليزية بأن يجعل بلاده نسخة عن سوريا"، كما جاء في الكتاب.
ويقول المؤرخ السوري سعد فنصة عن تلك الحقبة للجزيرة نت "لقد عاشت البلاد -مطلع الخمسينيات وخلال فترة حكم أديب الشيشكلي الذي اعتمد على نخبة من الكفاءات القانونية والاقتصادية والعلمية، عصرها الذهبي في كل من التصنيع والزراعة وقوة الجيش، وهو ما جعلها تشهد نموا وازدهارا لم يتكرر خلال عهود الحكم اللاحقة".
ويضيف: "عاشت البلاد تلك الحقبة باعتراف أعداء الشيشكلي والمنقلبين عليه أنفسهم، وتقارير منظمة الأمم المتحدة الإنمائية التي نشر الكتاب بعضا من أرقامها ووثائقها".
جدل النهضة والاستبداد
يرى المؤلفان في كتابهما أن أبرز ما ارتبطت به صورة الرئيس السوري الأسبق أديب الشيشكلي في ذهن بعض السوريين إنما هي الرؤية الشاملة والمبكرة التي طرحها للنهوض بالمجتمع السوري، حيث اعتبر الشيشكلي "أن استعادة هيبة الدولة لا بدّ أن تمر بتحقيق جملة من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية الجدية، وأن تنعكس على تحسين ظروف المعيشة للمواطنين".
ويمكن إيجاز رؤية الشيشكلي في اقتباس من الدكتورة أمل مخائيل بشورة -زوجة مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق- التي قالت في مذكراتها عن الرئيس الأسبق "لقد باشر الشيشكلي في مشروع طموح لإنجاز إصلاحات اقتصادية اجتماعية وإدارية، وناضل لإبراز هوية الكيان السوري المستقل، وأكد على هوية سوريا العربية والإسلامية ودورها المميز في المحيط العربي. ولأول مرة في تاريخ سوريا الحديثة، نفذ الشيشكلي سياسة جزئية في تعريب الحياة العامة والنظام التربوي التعليمي، وعمل بجد لإقصاء النفوذ الأجنبي في هذا الميدان".
ويرى سعد فنصة أن أهمية شهادة الدكتورة أمل تنبع من كونها زوجة ميشيل عفلق الذي كان واحدا من أشرس معارضي حكم أديب الشيشكلي، ويقول فنصة "لقد ذهلت عندما أطلعني بسام البرازي على ما دونته الدكتورة أمل، إذ قالت -رغم موقف زوجها السياسي- إن الشيشكلي يعدّ أول مصلح عظيم في تاريخ سوريا المستقلة، فهو أول من اتخذ خطوات فعالة لإتمام بناء الوحدة الداخلية من خلال تقليص الخصوصيات السياسية والاجتماعية للأقليات الدينية والعنصرية، ومن خلال كسر حدة نظام البداوة".
وبحسب فنصة، فقد اعترف أعداء الشيشكلي من عسكريين وسياسيين بحقيقة ما قدمه هذا الرجل لسوريا، وفي المقابل يرى بعض المؤرخين والمعاصرين لعهد الشيشكلي أن الأخير كان أميل لخلق نظام سياسي يعتمد على الدكتاتورية العسكرية في تسيير شؤون البلاد، مستندين في رأيهم إلى جملة من السياسات الداخلية التي اتبعها: كحل الأحزاب واعتقال المعارضين.
معركة فلسطين
ويشير سعد فنصة في حديثه للجزيرة نت إلى دور الشيشكلي في معركة فلسطين عام 1948؛ حيث كُلِّفَ -عندما كان لا يزال عقيدا في الجيش- من قبل الحكم الوطني في سوريا بقيادة فوج اليرموك الثاني قبل دخول الجيوش النظامية إلى المعركة، وكان هدف الفوج تحرير الجليل الأعلى من العصابات الصهيونية.
ويقول الفنصة: "قاد الشيشكلي المعارك ببسالة متناهية، وشهد ببطولاته أكرم الحوراني والأديب عبد السلام العجيلي -من الشخصيات السورية البرلمانية المتطوعة في معارك فلسطين الأولى- وهو ما دفع عبد السلام العجيلي إلى توظيف بعض من قصصه الحقيقية المستمدة من وقائع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، واعترف في إحدى المرات أن بعضا من قصصه كانت حقائق حية من ذاكرته، شهد فيها على بطولة أديب الشيشكلي دون أن يسميه".
واستطاع فنصة فيما بعد التأكد من حقيقة قيادة أديب الشيشكلي لفوج اليرموك الثاني بشهادات أخرى من الوثائق الإسرائيلية، وأيضا من الشخصيات العسكرية التي رافقت الشيشكلي، غير أن الشيشكلي فوجئ فيما بعد بقطع الإمدادات عنه، فذهب إلى دمشق وقابل الرئيس شكري القوتلي "الذي لم يكن بيده حيلة"، فقابل الهيئة العسكرية لجيش الإنقاذ راجيا إمداده بالذخائر، لكن الهيئة تعللت بالحجج، وكان قد سبق أن أرسل إليهم الوفد تلو الآخر لإمداده بالسلاح والذخيرة، فلم يستجيبوا لطلباته المتكررة "فشعر بالمهانة والخذلان وعاد من فلسطين محبطا ويائسا من ساسة دمشق والعرب، كما وصفه والدي بشير فنصة حين كان يلتقيه، وعرفه عن قرب بعد عودته من حرب فلسطين، وكانت حينها فكرة الانقلاب العسكري تراوده"، بحسب المؤلف فنصة.
أحداث السويداء
لا تزال إلى اليوم الأحداث الدموية التي شهدتها محافظة السويداء في يناير/كانون الثاني 1954 على عهد الشيشكلي مثار جدل بين السوريين، ولا سيما مسألة مدى تورط الرئيس الأسبق في تلك الأحداث التي أسفرت -بحسب الروايات- عن مقتل قرابة 300 مدني.
وبدأت شرارة الأحداث في أواخر عام 1953 في محافظة حلب التي شهدت مظاهرات منددة بسياسة الحكومة، وسرعان ما انتقلت إلى السويداء مطلع عام 1954، حيث ارتفع سقف مطالبات المتظاهرين ليصل إلى المطالبة بتنحي الشيشكلي. فحاصر الجيش المدينة وصدر قانون حظر التجول وانتشرت إشاعات حول نوايا الأجهزة الأمنية اعتقال عدد من وجهاء المدينة ومشايخها، وبعد ذلك تم قصف بلدة القريّا وسط المحافظة.
في حين يشكك سعد فنصة في دقة هذه الرواية والأرقام التي وردت فيها، ويشير إلى أن التصعيد حدث "على خلفية اعتقال منصور بن سلطان الأطرش" الذي ورد في العديد من الروايات أنه كان يعمل على التنسيق لانقلاب ضد حكم الشيشكلي.
ويضيف فنصة في حديثه "لا توجد حتى اليوم وثائق رسمية عن عدد القتلى أو عما حدث في المدينة آنذاك".
ويتابع: "لكن على الجهة الأخرى هناك وثائق رسمية تؤكد أن العميد رسمي القدسي هو المسؤول بالدرجة الأولى عن الأحداث في مدينة السويداء، حيث قام بالكثير من الأعمال المسيئة لجبل العرب وأهله، وبعد اندلاع الاضطرابات لم يجد الشيشكلي بدا من إخمادها".
ويرى العديد من المؤرخين أن أحداث السويداء أسهمت في دعم وجهة نظر المنقلبين على الشيشكلي، وتقوية حظوظهم في استمالة المكونات العسكرية والمدنية لتأييد مخططهم ودعمه.
الانقلاب والاغتيال
انطلقت الشرارة الأولى للانقلاب العسكري الذي أطاح بأديب الشيشكلي من مدينة حلب، بعد أن احتل الضابط البعثي مصطفى حمدون -آمر سرية الخدمات في المنطقة الشمالية- مقرَّ الإذاعة الرسمية، وإعلانه الانقلاب في 25 شباط/فبراير 1954.
وبالرغم من انضمام آمري المنطقة الشرقية والساحلية لانقلاب حمدون، فإن الثكنات والمعسكرات في مدينة دمشق وما حولها كانت ما تزال تحت إمرة الشيشكلي بمئات الدبابات والمصفحات وآلاف الجنود وضباط الصف؛ وذلك بشهادة العديد من الضباط السوريين الذين أكدوا أن الشيشكلي كان قادرا على سحق المتمردين لو أراد ذلك، بحسب ما جاء في الكتاب.
ويورد المؤلفان اعتراف الضابط مصطفى حمدون الذي قال فيه إنه حتى بعد انضمام قيادة المنطقة الوسطى في حمص وحماة للانقلاب، ظلت موازين القوى العسكرية في صالح أديب الشيشكلي الذي أشار في بيان استقالته إلى أنه يستقيل حقنا لدماء الشعب والجيش ودرءا لقيام حرب أهلية في البلاد.
وبينما يتجهز الانقلابيون لضرب أي تحرك محتمل للآليات العسكرية والمصفحات من معسكرات قطنا الموالية للشيشكلي، كان الأخير قد غادر البلاد في 27 فبراير/شباط برا إلى لبنان دون علم ضباطه، ومنهم قائد الشرطة العسكرية عبد الحق شحادة والمقدم حسين حدّة وغيرهم ممن احتلوا مطار المزة بغية منعه من مغادرة البلاد والتخلي عن الحكم.
يحكي فنصة عن تلك المرحلة، قائلا: "فوجئ بعض ضباط أديب الشيشكلي بأنه قدم استقالته وغادر البلاد بعد أن أوصى بحماية زوجته وأولاده وألا يتم تعريضهم للأذى، وقد قام شحادة والضابطان الشقيقان حسن وحسين حدّة آنذاك بإعلان العصيان على الانقلاب البعثي".
بعد خروج الشيشكلي من سوريا، تصاعدت وتيرة الاضطرابات والتظاهرات في دمشق وحلب، وخشي الجميع من حدوث حالة فلتان أمني قد تجر البلاد إلى حرب أهلية، وعلى خلفية هذه الاضطرابات يحكي فنصة عن استدعاء الرئيس هاشم الأتاسي من حمص ليستكمل فترة رئاسته، بعد أن كان قد استقال عقب بداية استيلاء الشيشكلي على السلطة منذ عام 1951.
وتم اغتيال أديب الشيشكلي في مقاطعة غوياس بالبرازيل في 27 سبتمبر/أيلول 1964، بإصابته بطلق ناري من مسافة قريبة، وتشير الروايات إلى أن منفذ عملية الاغتيال شاب من محافظة السويداء يدعى نواف غزالة.
المصدر : الجزيرة