الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الحرب وتفاصيل الحياة

الحرب وتفاصيل الحياة

20.12.2018
سوسن جميل حسن


سوريا تي في
الاربعاء 19/12/2018
كل الشعوب تتعلم من تجاربها، هذا منطق الأشياء، والشعوب التي لا تتعلم سوف تزداد انحداراً إلى مستويات أدنى وأدنى في حياتها، وربما يصير من العسير عليها النهوض واللحاق بركب الحياة البشرية والعالم الذي يسير بتسارع كبير نحو المستقبل.
لا ينحصر التعلم بالقضايا الكبيرة فقط، فهناك تفاصيل يومية تتشكل الحياة منها، على الصعيد الفردي وعلى الصعيد الاجتماعي، ليست الحياة الفردية منفصلة ومعزولة بالكامل عن البيئة الثقافية المحيطة بها والتي تصنع لبناتها الأولى، كما أن هذه الحياة الفردية والجمعية ليست بمعزل عن الأنظمة السائدة المتحكمة بالمجال العام، من سياسية ودينية واجتماعية وأعراف وقيم متوارثة.
لقد أوشكت انتفاضة الشعب السوري التي تحالفت على إجهاضها قوى عديدة إقليمية ودولية فحرفتها عن أهدافها الرامية إلى إحداث انقلاب جذري على الواقع المتهالك الذي يعيشه الشعب، والنهوض من حالة الاستنقاع المديد الذي زُجّ فيه على مدى عقود خلت، أوشكت هذه الانتفاضة على إكمال عامها الثامن، بعد أن تحول الحراك إلى حرب مدمرة قتلت ودمرت وهجرت وأفقرت وجوعت الشعب السوري، عدا التقسيم الذي تدل المؤشرات
الدافع الرئيسي لانتفاضة الشعب السوري لم يكن الجوع، بل انتهاك الكرامة بأساليب متنوعة ومجالات لا تعد
بغالبيتها على أنه صار أمرا واقعا مهما علت الأصوات وأطلقت الشعارات والوعود بأن سوريا ستعود إلى شعبها كاملة غير منقوصة، فأي سوريا هذه؟ وأي شعب سوري يمكن الحديث عنه بهذا التعميم بعد أن دقت الأسافين بين القلب وشغافه بكل ما وصلت إليه المخيلة البشرية المتوحشة من إبداع في العنف والتعذيب؟
إن المتابع لحياة الناس بتفاصيلها الصغيرة بعد هذه السنوات الرهيبة سوف يرصد التحولات الدراماتيكية التي أحدثتها الحرب، ففي الواقع إن الدافع الرئيسي لانتفاضة الشعب السوري لم يكن الجوع، بل انتهاك الكرامة بأساليب متنوعة ومجالات لا تعد، فالفقر في سوريا لم تكن قد برزت له أنياب وصار يعض أصحابه، كان هناك فقر، لكن حتى الفقر مصطلح نسبي، فإذا ما قورن دخل الفرد في سوريا بدخول الأفراد في الدول التي تقدم لمواطنيها حياة كريمة فإن السوري سيكون فقيرا لأن دخله أدنى بكثير، وحياته لم تكن مرفهة. لكن مقارنة بالواقع الذي وصل إليه الشعب المنهك من الحرب وتبعاتها فإنه كان يعيش بصورة أفضل لناحية المعيشة، وهذا "مستمسك" يحاج به أصحاب مقولة "كنا عايشين".
من المؤلم أن تنتهك الحرب بهذه القسوة والشراسة تلك المساحة الخاصة في روح ووجدان السوري، الركن الخفي في أعماقه الذي كان ينفحه بالشعور بكرامته وقيمته، بل كان يتضخم كلما ضاقت به الحال وازداد التغول في حياته والطغيان انتهاكاً لكرامته، الروح التي تجعله يشعر بالتميز وبقيمته الاعتبارية، إنها نمط حياته لناحية المعيشة وإشهارها للآخرين، النمط القائم على أعراف وتقاليد لم تعد لازمة في العصر الحالي، لكنها راسخة في اللاوعي الجمعي تشكل الحافز الرئيسي للسلوك، وملمحاً مهما من ملامح هويته.
من يراقب الشعوب التي نهضت من تجارب تاريخية مريرة وقاسية كالشعب الألماني، سوف يرى كم نظمت تلك التجارب أساليب حياتهم، وكم صار للجهد البشري قيمة، والتضحيات التي دفعها الشعب قيمة أيضا تؤسس لاحترام الحياة، وتؤسس لمنظومة قيم وأعراف تتناسب مع هذه القيمة، وهذا الجهد لا يأتي من الفراغ، ولا يمكن جعله نظام حياة ما لم يدخل في الوعي الجمعي ويصبح ركيزة من ركائز الثقافة العامة. بتعبير مختصر يمكن القول إن الشعب الألماني بشكل عام لا يمارس الهدر، على المستوى الفردي وعلى المستوى العام. فالألماني بشكل عام لا يشتري أكثر من حاجته، ولا يضع في صحنه أكثر من حد شبعه كي لا يرمي ما يبقى فيه إلى سلة الفضلات. لقد عانى من الجوع في الحرب كثيراً، وما زالت القصص والحكايات تروى عن تلك المعاناة، بل ما زال هناك بعض أفراد ممن عاشوها على قيد الحياة والتذكر.
قبل الحرب في سوريا لم تكن لدى الشعب السوري ثقافة خاصة حول إدارة الحياة وترشيد الاستهلاك وتقدير لقيمة الجهد البشري، كان الناس يشترون
عادات الطعام وتدبر المعيشة تندرج تحت بند الثقافة العامة، هذه الثقافة التي لم تشتغل الأنظمة عليها، بل ترك الناس لمنظوماتهم المتوارثة وقيمهم التي لم تعد في مجملها صالحة للعيش في العصر الحالي
للاستهلاك ما يفوق حاجتهم فيما لو تم تدبيرها بشكل منظم ورشيد، يشترون كميات يخزنونها في براداتهم ويلقى جزء منها في سلال النفايات، يدخلون المطاعم ويطلبون أكثر من حاجتهم، على الأخص إذا كانوا أصحاب الدعوة، فواجب الضيافة والمباهاة بالكرم والقدرة على الدفع يدفعهم إلى المبالغة في طلب الأصناف التي يجب أن تكون موجودة على المائدة، وفي النهاية سوف تزيد كميات كبيرة وتلقى إلى الحاويات.
عادات الطعام وتدبر المعيشة تندرج تحت بند الثقافة العامة، هذه الثقافة التي لم تشتغل الأنظمة عليها، بل ترك الناس لمنظوماتهم المتوارثة وقيمهم التي لم تعد في مجملها صالحة للعيش في العصر الحالي، وبالرغم من أن سياسة الحزب الاجتماعية تعتبر الأسرة خلية الأمة الأساسية وعلى الدولة حمايتها وتنميتها وإسعادها كما جاء في البند الأول من المادة 39 لدستور الحزب، فإن الأسرة السورية لم تلقَ اهتمامًا لناحية تأهيلها لتكون لبنة أساسية لبناء مجتمع سليم ومعافى قادر على التطور ومواكبة العصر، بل تركت لثقافة القبيلة والموروث بكل ما يحمل من تيمات تتوجب غربلتها، وتُرك للناس أن يقتنعوا بأن "الولد يأتي ورزقه معه". أما بالنسبة إلى سياسته في التربية والتعليم فرسالته ترمي إلى: خلق جيل عربي جديد مؤمن بوحدة أمته وخلود رسالتها، آخذ بالتفكير العلمي طليق من قيود الخرافات والتقاليد الرجعية، فكان الإيمان بوحدة الأمة، والسعي في طريق تحقيق الرسالة الخالدة، على حساب بناء أفراد قادرين على العيش في العصر وامتلاك أدواته. ومما زاد في الطين بللاً، أن كل السلاطين المتحكمة بمصير المجتمع كانت متحالفة ومتناغمة فيما بينها على تكريس هذا الاستنقاع، إلى أن انقضت الحرب بجبروتها فانهار ما تبقى، وانحدرت غالبية الشعب إلى خط الفقر وما تحته، وصار الجوع غولاً في حياة السوريين وشبحاً يتهدد من ما زال منهم على مشارفه، فأصاب السوري مرتين، مرة في الواقع بعد أن صار عاجزاً، ما عدا لصوص الحرب ومصاصي دماء الشعب، عن التباهي بنفسه وبخصوصيته وكرمه وقدرته على الضيافة، بعد أن صار فنجان القهوة" التي تبيض الوجه رغم سوادها" عبئاً على السوري، وصار السوري مكرهاً يشتري البندورة بالـ"الحبة" والبطيخ الأحمر بالـ "الحز" فيما لو تمادى في إسرافه ليحقق حلماً صغيراً لأولاده. ومرة بعد أن أصابه في الصميم، صميم إحساسه بذاته.
كان يمكن أن تُبنى شخصية السوري وفق مبادئ هادفة تجعل منه قادراً على العيش في عصره بطريقة تجعله أكثر إنتاجاً وإحساساً بكرامته فيما لو كانت الأنظمة المتحكمة بحياته مهتمة به، لكنه لم يكن أكثر من رقم مهمل، أو حجر تحركه بحسب مصالحها متروكاً ليدفع ثمن الفساد المتأصل الذي يشكل أهم أركان الاستبداد.