الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الحديث في السياسة في حضرة المأساة

الحديث في السياسة في حضرة المأساة

09.07.2019
يحيى العريضي


سوريا تي في
الاثنين 8/7/2019
في ثقافة الشعوب وعاداتها وتقاليدها، لا مكان للفرح في حضرة الحزن؛ ولا للهزل في لحظة الجد؛ ولا للغناء والرقص في لحظة المأساة. غير مألوف أن تطلق الدعابات المضحكة في العزاء، أو تنوح أو تلطم في فرح. صحيح أن أكثر الناس عمقاً وخطراً في السياسة والحياة هم أولئك الذين لا تقرأ وجوههم التي تشبه وجوه لاعبي البوكر. يبقى أحد الاستثناءات، على أي حال، الرقص في ساحة الأمويين بدمشق بعد قصف الصهاينة في سوريا؛ وابتسامات "السيد الرئيس" مع أشلاء الأطفال، والكيماوي. رغم أن هناك أولئك الذين يبتسمون وقلوبهم تتقطع من الألم لمأساتهم الخاصة أو مآسي الآخرين؛ ولكن في الحالة السورية أن تكون منفصماً عن الواقع ناكراً له؛ ليس إلا مرضاً شَهِدَه السوريون في منظومة حتى اللحظة لا تشعر بوجود كارثة في سوريا، ولا تقِرُّ بما فعلته بسوريا وبأهلها.
مناسبة هذه "المقدمة النفسية – الفلسفية"، الحديث عن العملية السياسية في سوريا في حضرة عشرات الطائرات البوتينية - الأسدية وبراميلها وصواريخها وما تخلّفه من أشلاء في الشمال الغربي السوري، ومئات الآلاف الذين يفترشون الأرض، ويلتحفون الأشجار في تلك المناطق. لم يعد هؤلاء، ولا مَن يشبههم بمأساتهم من السوريين، يتحمل سماع كلمة "سياسة" أو "الأمم متحدة" أو "بوتين" أو "الأسد" أو "الائتلاف" أو "بيدرسون". يرى هؤلاء أن العالم ضدهم ولا يكترث لأوجاعهم؛ وكل كلام السياسيين والسياسة ليس إلا تخديراً لموتهم المحتّم. من هنا يجد مَن ينشد الكتابة في موضوع سياسي نفسه مكبلاً ببلائهم أكثر من تكبله بألاعيب السياسة والمصالح؛ وكأن ذلك يحدث على حساب كرامتهم ودمهم.
يذهب بيدرسون إلى موسكو، وخلال أيام سيلتقي نظام الأسد وهيئة التفاوض، بعد أن أطلق تصريحاً يقول بفك عقدة أسماء اللجنة الدستورية إثر ضغط شكّله تصريح المندوبين الأميركي والفرنسي على الروسي؛ الذي بدوره ضغط على نظام الأسد؛ ليكون هناك ما سمّاه بيدرسون انفراجاً أو خرقاً في مهمته
الخطاب السائد يقول: لنفرض أن تلك اللجنة تشكلت، وبدأت عملها ضمن رئاسة مشتركة بين المعارضة والنظام، وحسب قواعد إجرائية ناظمة لعملها؛ وتمخض عن عملها دستور، ولا أحلى؛ فهل هذا الدستور سيلقى القبول!؟ وهل سيكون قادراً على العيش في بيئة تسودها البلطجية والعنف وقهر المخابرات والطائرات والبراميل!؟ وأي انتخابات أو جسد سياسي انتقالي إذا كانت منظومة الاستبداد لا زالت متمترسة عند شعارها الانتحاري بأن تحكم وتتحكم بكل شيء، أو تدمر كل شيء!؟ كيف ستتم إعادة سوريا إلى سكة الحياة، وخمس قوى ضاربة بعسكرتاريتها هاجسها مصالحها؛ حتى لو استلزم ذلك تمزيق هذا الجسد السوري نهائياً!؟ أي سياسة تنفع في ظل هكذا حال!؟ كيف تتحدث في السياسة، والموت هو الحاضر الوحيد في كل ما حولك!؟
وفي الرد على هذه الرؤية، لا بد من تَذَكُّر لحظة انطلاق صرخة الحرية السورية، وكيف كانت سلمية بالمطلق، وكيف سعى نظام الاستبداد إلى قتل أي إمكانية لأي حوار، وكيف قاتل بشراسة تلك القرارات الدولية التي تتحدث عن عملية سياسية تعيد سوريا إلى سكة الحياة؛ وكيف وظّف الإرهاب بكل أصنافه، وصولاً إلى جذب جملة من الاحتلالات، حتى يجعل أي حوار أو عملية سياسية غاية في التعقيد، إن لم تكن مستحيلة.
من هنا ربما تكون العملية السياسية وبوابتها "اللجنة الدستورية" الخطوة الأولى على طريق نهاية هذه المنظومة الاستبدادية، وبدء تعافي سوريا. من هنا قد يكون الحديث في العملية السياسية – والذي يبدو في غير مكانه أو غير سياقه في حضرة الدم والألم- هو طريق الخلاص. وبوتين حتى عنقه بالدم السوري، ذهبت هيئة التفاوض السورية إلى موسكو، لأنها تعرف أن مكمن الداء هناك؛ ولا بد من وضع ذلك المحتل أمام الحقائق المأساوية التي يصنعها على الأرض السورية، ويتركها سجلاً لا يُنسى في الذاكرة السورية كمُدًمِر للبشر والحجر من أجل منظومة لا شبيه لها في التاريخ السياسي. تحمّلت الهيئة كل صنوف الهجوم المعنوي من أهلها؛ ومع ذلك لم تيأس، وتحوّلت إلى رقم صعب يُربك موسكو التي سعت إلى ضرب مصداقيتها بكل ما أوتيت من وسائل دعائية رخيصة، وإجراءات دولية خبيثة.
ترى موسكو أن كل الأبواب موصدة في وجهها إلا وجْهَة العملية السياسية. وهي الآن أمام أحد خيارين: إما مقاربة المسألة بشكل صادق وجاد يوصل إلى تطبيق فعلي وحقيقي للقرارات الدولية؛ ومآله الأخير انتقال سياسي يضع سوريا على سكة الحياة، أو الاستمرار بالبهلوانية والتكتكة التي تعيد التجربة بالأدوات ذاتها
والآن، ومع كل المأساة القائمة، واستحالة الحسم العسكري في ظل مقاومة من الذين لم يبق لهم ما يخسرونه، وبضغط عالمي يأخذ في الحسبان أربعة ملايين سوري في الشمال الغربي، ومع استعصاء مسألتي إعادة الإعمار وعودة اللاجئين السوريين، ومع حصار إيران الظاهر، ومع خشية أوروبا من موجة نزوح سورية جديدة؛ ترى موسكو أن كل الأبواب موصدة في وجهها إلا وجْهَة العملية السياسية. وهي الآن أمام أحد خيارين: إما مقاربة المسألة بشكل صادق وجاد يوصل إلى تطبيق فعلي وحقيقي للقرارات الدولية؛ ومآله الأخير انتقال سياسي يضع سوريا على سكة الحياة، أو الاستمرار بالبهلوانية والتكتكة التي تعيد التجربة بالأدوات ذاتها معتقدة أنها تصل إلى نتائج مختلفة؛ ولكنه لن يزيد روسيا إلا غرقا في المغطس السوري وتعقيداً أكبر في ملفاتها الأخرى.
من هنا، مَن شَرِب البحر، لا يغصُّ بالساقية. كل الأطراف المتدخلة بالشأن السوري وصلت إلى ذروة ما تريده؛ ولم يبق أمامها إلا الانحدار، وربما الاندحار؛ إن هي استمرت بالنهج ذاته. وحده السوري الحقيقي هو الذي لم يبق لديه ما يخسره. وهو إن صَمَد قليلا، لا بد أن ينجو، ويعود سيداً على أرضه وفي وطنه. زمن الانحدار وصل نهايته الحتمية؛ وما أمام السوري إلا الفوز حتى بفعل العطالة؛ فما بالك إن صَمَدَ وعَمِلَ واجتهد. إنه إلى سكة الحياة عائد.