الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الثورة السورية ووطأة العسكرة

الثورة السورية ووطأة العسكرة

15.09.2019
عبدالباسط سيدا


جيرون
السبت 14/9/2019
كانت العسكرة من المشكلات الاستراتيجية القاتلة التي مُنيت بها الثورة السورية، وما زالت تدفع ثمنها. وفي الوقت ذاته كانت العسكرة، بالنسبة إلى النظام ورعاته، طوق النجاة، بل كانت المحور الأساس في استراتيجيتهم التي اعتمدوها منذ اليوم الأول لمواجهة الثورة.
انطلقت الثورة السورية في دمشق ودرعا، لتنتقل لاحقًا إلى حمص وحماة وحلب، ومعظم المدن والبلدات السورية في مختلف المناطق والمحافظات. وبدأت الثورة بالتظاهرات والمهرجانات التي شارك فيها الشباب من مختلف المكونات السورية. وكانت في بداياتها انتفاضة عفوية، طالبت بالإصلاحات، بعد أن تأكد الشباب من انسداد الآفاق أمامهم. ولكن مع شدة العنف الذي مارسه النظام، وإصراره على مواجهة التظاهرات بالرصاص، وإقدامه على القتل وارتكاب المجازر والتمثيل بجثث الناشطين أبشع تمثيل، وهنا يُشار -على سبيل المثال لا الحصر- إلى أيقونتي الثورة: حمزة الخطيب وإبراهيم القاشوش؛ اتسعت مساحة الثورة وارتفعت مطالبها.
حينما أدرك النظام أن الثورة في طريقها إلى التصاعد، وأن سكان المدن الكبرى خاصة دمشق وحلب يميلون إلى التفاعل مع الثورة، وتأييدها، والانضمام إلى صفوف الشباب الباحثين عن مستقبل أفضل للأجيال المقبلة؛ حينما تأكد النظام من ذلك، مارس كل الأساليب من أجل دفع الأمور نحو العسكرة، بقصد سحب الثورة إلى ميدان قوته، وقطع الطريق أمام انخراط المكونات السورية الأخرى خارج نطاق المكون العربي السنّي في الثورة، الأمر الذي كان من شأنه، في حال حدوثه، إسقاط خطط النظام، وكشف أساليبه التضليلية.
لو استمرت الثورة السلمية أشهرًا أخرى؛ لكنّا قد شهدنا تحركًا شعبيًا واسعًا في حلب، وكذلك في دمشق، رغم كل الاحتياطات التي كان النظام قد اتخذها من جهة ربط التجار ورجال الأعمال، ورجال الدين من مختلف الأديان والمذاهب، بعجلته السلطوية. فالبنية المجتمعية كانت تهتز وتتناغم مع مطالب الشباب المشروعة وشعارات الثورة. هذا على الرغم من عدم وجود أحزاب ومنظمات قوية، كان من شأنها تنظيم الناس، وتوعيتهم وقيادتهم.
فأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” كانت ملتزمة بقيادة حزب البعث لها، أو بكلام أدق ملتزمة بتوجيهات وأوامر الأجهزة الأمنية. بينما كانت الأحزاب الأخرى، الضعيفة أصلًا، المترهلة من جهة قياداتها وخلافاتها، مترددة حائرة، تضع قدمًا هنا وقدمًا هناك، ولا تستطيع التأثير بفاعلية في الأحداث، أو توجيهها نحو مسارات إنقاذية.
مع تصاعد وتيرة وحشية النظام، بدأت الانشقاقات من الجيش، وأُعلن عن الجيش الحر الذي لم يكتمل مشروعه، مع الأسف، نتيجة الخلافات الداخلية بين الضباط، وتعارض وجود جيش كهذا مع مشاريع بعضهم، وذلك لأسباب نترك البحث فيها جانبًا هنا.
تشكّلت الفصائل المسلحة التي سرعان ما استغلتها الجهات الإقليمية والدولية، وهي التي كانت لها حسابات لا تتقاطع مع مطالب السوريين الثائرين على النظام. وقد أسهم النظام بنفسه في دفع الأمور نحو هذا الاتجاه، بل إنه خطط لذلك، وعمل على تحقيقه عبر إطلاق سراح الإسلاميين المتشددين، وغضّ النظر عن تحركاتهم، بل تعامل معهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وفي ما بعد دخلت أطراف إقليمية ودولية من خلال أجهزتها الأمنية على الخط، وتشكّل خليط غريب عجيب من الفصائل الجهادية في معظمها التي تمكنت من استقطاب أعداد كبيرة من السوريين في أرياف دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب ودرعا ودير الزور والرقة والحسكة. وبدأت الفصائل المعنية بمواجهة النشطاء المدنيين الذين بدؤوا الثورة أصلًا، وكانت التهديدات والاعتقالات، والطرد والتغييب، ويشار هنا بصورة خاصة إلى قضية رزان زيتونة وسميرة خليل ووائل حمادة وشقيقه ناظم حمادة، هذا مع العلم أن هناك عشرات القضايا المشابهة إلى هذه الدرجة أو تلك.
الأمر الآخر الذي يثير التساؤلات، ويحتاج إلى مزيد من التحليل والاستقصاء، يتجسّد في لجوء تلك الفصائل إلى حرب المدن والجبهات، عوضًا من حرب العصابات والعمليات النوعية السريعة والمحدودة؛ وذلك في ظل واقع عدم التكافؤ، وضرورة تجنيب المدن وسكانها التدمير والتشريد، خاصة المدن الكبرى مثل حلب وحمص. والنتيجة -كما نعرف جميعًا- تدمير المدن وتشريد سكانها، الأمر الذي أدى بصورة مباشرة إلى الحد من حالة التعاطف الشعبي بين السكان في مرحلة التحول الانتكاسي الذي أصيبت بها الثورة.
فمن ثورة تطالب بحكم مدني ديمقراطي تعددي، يُطمئن سائر المكونات السورية، أصبحنا أمام واقع تهمين عليه التوجهات الإسلاموية المتشددة، يساهم في نشرها وترسيخها جملة من الشرعيين من أنصاف المتعلمين، الذين جُلبوا وفُرضوا على مختلف الفصائل بأساليب ووسائل ما زالت خافية علينا، ولم يكن للمعارضة السياسية -سواء في المجلس الوطني السوري أو الائتلاف- أي دور بصورة رسمية في ذلك. ولكن هذا لا ينفي وجود بعض الأشخاص أو الجهات السياسية، سواء ضمن المجلس أم الائتلاف، ممن كانت لهم علاقة بالأمر، ولكن ذلك كان يتم، في حال تثبيته، خارج ومعرفة وإرادة المكتب التنفيذي في المجلس الوطني، والهيئة السياسية في الائتلاف.
هكذا تحرّر النظام من عبء تموين المدن وإدارتها، ومارس كل الأساليب من أجل تدميرها، وإخراج الناس منها، ربما بدافع التمهيد لمشاريع قادمة، ما زالت في حكم التخمينات والتحليلات، هذا مع أهمية الإقرار بارتفاع وتيرة القرائن في هذا المجال.
أما جمهور الثورة فقد بات مشردًا ملاحقًا، يتعرّض للقتل والتهجير. وكل ذلك أحدث شرخًا عميقًا بين مختلف المناطق والمدن، لا سيّما المدن الكبرى، ودمشق وحلب تحديدًا. فأنظمة منطقتنا سقطت، عبر مختلف المراحل والعصور، سلمًا أو حربًا، في العواصم لا في الأرياف. فهذه الأخيرة يمكن أن تؤدي دور الداعم والسند وخطوط الإمداد، ولكن ذلك يستوجب وجود قيادة وطنية متماسكة، لها القدرة على التوجيه وتوزيع الأدوار والمهام، تضع الاستراتيجية العامة، وتمارس التكتيكات المختلفة من أجل بلوغ الأهداف الأساسية.
أما في الحال السورية، ونتيجة التقديرات الخاطئة منذ البداية، وعدم وجود تنظيمات قادرة على تشكيل قيادة وطنية واسعة تمثّل مختلف الأطياف والتوجهات السورية على قاعدة طمأنة الجميع، وتركيز الجهود الدبلوماسية والسياسية لتمكين الثورة السلمية من الاستمرار، وحشد التأييد الدولي لها عبر التواصل مع المراكز القومية المؤثرة على صعيد مخاطبة الرأي العام والتأثير فيه، فقد هيمنت، في ظل هذه الشروط، العقلية الاتكالية، ودغدغت الحلول السحرية رغبات وتمنيات وعقد القيادات السياسية التي اعتقدت بأن الأخطاء الحاصلة، مهما كانت طبيعتها، لن تستمر، طالما أن التغيير على الأبواب، وبالتالي ستتم معالجة كل النواقص.
ولكن الذي حصل هو أن الإرادة الدولية التي اعتقدنا أنها إلى جانب التغيير في سورية، كانت لها حسابات أخرى. فقد كانت تدير الأزمة، ولا تبذل أي جهد سياسي حقيقي لمعالجة الموضوع، هذا مع العلم أنه كان في مقدورها أن تفعل ذلك. كما أنها لم تدعم السوريين بالمعدات الكافية في مرحلة العسكرة، لحسم الموضوع قبل أن يهيمن النزوع الإسلاموي المتشدد على معظم الفصائل المسلحة، وأيضًا نقول هنا: كان في مقدور تلك الإرادة الدولية التي تمثلت في مجموعة أصدقاء الشعب السوري الكبرى أن تفعل الكثير، وتعتمد على الضباط والجنود المنشقين، ولكنها مرة أخرى لم تفعل، وباتت الساحة مفتوحة أمام الميليشيات الغريبة المتعددة الجنسيات؛ ومن ثم دخلت الجيوش الدولية والإقليمية، وتحوّل السوريون إما إلى متفرجين ومراقبين لمعرفة طبيعة وتوجهات ما يجري، أو أنهم تحولوا إلى مجرد أدوات في مشاريع الآخرين المحلية منها والدولية.
وما يجري راهنًا في منطقة إدلب يمثّل خلاصة مكثّفة لجملة المقدمات التي أدت إلى الوضعية الراهنة التي يعيشها السوريون، وتعرضت لها سورية: بلد موزع بين مناطق نفوذ؛ ومجتمع منقسم على ذاته؛ العصبيات ما قبل الوطنية من دينية ومذهبية ومناطقية هي التي تحدد المواقف، وتبلور الأحكام العامة التي لا تؤسس في غالبيتها لمشروع وطني سوري، لا مجال أمام السوريين سوى الدعوة إليه، والعمل من أجل تطبيقه واقعًا على الأرض عبر الإقرار بالتنوع السوري، والاعتراف الصريح بالخصوصيات المجتمعية على المستويين السكاني والجغرافي، والالتزام من دون أي تردد بالحقوق المترتبة على ذلك، بما في ذلك الشكل الإداري للدولة والتقسيمات المحلية، وتوزيع السلطات بين العاصمة والمحافظات، بصورة تقطع الطريق على الاستبداد والفساد، والإجراءات البيروقراطية العقيمة.
مشروع كهذا يستوجب جهود نواة صلبة، تعلن التزامها الصريح الصادق به، من دون أي تحايل أو مراوغة، نواة يمتلك أعضاؤها الصدقية والأهلية الكافية التي تمكّنهم من التواصل مع مختلف أوساط الشعب السوري، بكل انتماءاته وتوجهاته وجهاته. هذا إذا كانت هناك نية صادقة، وإرادة حقيقية لبلوغ سورية التي قدّم شعبنا من أجلها تضحيات استثنائية، وإلا فإن المجال متروك لأصحاب المشاريع الخاصة الصغيرة، أو لأولئك الذين تتناغم مصالحهم مع المشاريع الإقليمية والدولية التي لا تبشّر قرائنها ومعطياتها، حتى الآن، بأي خير لسورية والسوريين.