الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الثورة السورية بين تجاذبات مصالح ومخاوف الدول الإقليمية

الثورة السورية بين تجاذبات مصالح ومخاوف الدول الإقليمية

11.09.2019
حليم العربي



نداء سوريا
الثلاثاء 10/9/2019
أدخلت الفصائليةُ الثورةَ السورية في نفقِ مصالحها الضيقة، ثم ساقتها خلف مصالح الدول الإقليمية الداعمة لها وفق مصالحها، مما أضعف الثورةَ وجعلها تحيد عن أهدافها السامية، وأصبحت في "حيص بيص" حائرة بين تدافع حرب المصالح للدول الداعمة من جهة ومخاوف دول الجوار من جهة أخرى.
بداية أنجزت الثورة السورية مع نهاية عام 2011م مرحلة مهمة وشاقة في تحطيم غطرسة النظام، وكسر حاجز الخوف عند الجماهير المنتفضة، لكنها تعثرت بعدها في المهمة الأخطر ألا وهي مرحلة البناء، ولم يشهد المحرر إلا تنظيم المجالس المحلية بجهود فردية، إلا أن الحاجة الماسّة لها ساعدت على انتشارها لتدير البلدات خدمياً، واستطاعت ملء الفراغ بعد انحسار سيطرة النظام عن المناطق المحررة.
كانت مهمة المجالس المحلية خدمية بحتة، لذلك عجزت عن تمثيل الثورة والفعاليات المجتمعية، مما أدى لاغتنام بعض المتسلقين الفرصة فذهبوا للتفاوض عن المحرر في المحافل الدولية ومجلس الأمن، وذهب ممثلو الفصائل العسكرية للتفاوض من جهة أخرى، ما أدى لشرخ كبير في صفوف المعارضة.
استيقظ الثوار والناشطون من غفلتهم ليكتشفوا أن أكثر قيادات الفصائل "شوفينيةً" ومغالاةً في التعصب ضد تلك المؤتمرات هم الأكثر انبطاحاً لها، رغم أنهم حرّموا التعامل مع الضامنين، وحاربوا مَن حضر "أستانا" و"سوتشي"، ولم يمضِ إلا بعض الوقت حتى أيقنوا أن بعض القادة يمارس التقية، يرفض الاتفاقات في الظاهر وهو الأكثر انصياعاً في تطبيق مخرجاتها، وأشدهم إصغاء لتفاهمات اللاعبين المتحكمين بالشأن السوري، بل طبقوا "سوتشي" و"أستانا" على الأرض وهم يعلنون خيانة كل مَن حضرها.
أُصيب بعض النشطاء بالنوستالجيا واعتصرهم الحنين لماضي الثورة، حيث البراءة والاستقلال والنضج الفكريّ والشعوريّ والأخلاقيّ، والثبات على طريق الخلاص من الاستبداد والفساد، حملوا تلك الأهداف وسيطروا آنذاك على سبعين بالمئة من الأراضي السورية، قبل أن يتدخل حلفاء الأسد مثل إيران وروسيا وحزب الله اللبناني، متذرعين بالتنظيمات المتشددة.
كان جل عمل الناشطين آنذاك هو تحييد الخصوم ومساعدة أتباع النظام في الانشقاق والقفز من سفينته الغارقة، حين فقد شرعيّته وصلاحيّته؛ بسبب ما ارتكبه من فضائح وجرائم تفوق طاقة المواطنين على التحمّل، واستمتعوا جميعاً بنشوة الانتصار وسرعة انتشار الثورة، سيطرت الثورة على سبعين بالمئة من مساحة سوريا وتمّ خلال الشهور الأولى تهشيم ثقة النظام بنفسه، والحد من سلطته وقبضته الأمنيّة على البلاد.
لم يعد مهماً مَن المتسبب، ومَن كان وراء انحراف الثورة وعسكرتها، ومَن وقف في وجه العاملين على تحييد الخصوم، ودفع الثوار البسطاء لمحاربة المنشقين، وأدى لطردهم إلى الدول المجاورة، وإغلاق أبواب التفاهم بين مختلف الخصوم في الداخل السوري، وهنا تحولت ثورة الشعب إلى حرب طائفية صفرية، يهدف كل خصم لإبادة عدوه الآخر، أو حصاره في بقعة جغرافية دون الالتفات لطاولة المفاوضات، واستشرى الزهد بإقناع الآخر والاجتماع على حل مقبول للجميع.
التحالفات والتفاوضات التي زهد بها الثوار والنظام، تمسك بها آخرون من ضامنين ولاعبين، وجدوا لأنفسهم من العملاء من يمثل الثورة بعيداً عن تضحيات المقاتلين على الأرض.
لا شك أن العسكريين استيقظوا متأخرين كغيرهم من السياسيين والناشطين، واكتشفوا الحقيقة المرة بعد أن أفرطوا ببيع الوهم لأتباعهم وحاضنتهم الثورية، ثم وجدوا أنفسهم أمام محرقة طويلة الأمد يتدرج بها الروس تصاعدياً وجغرافياً باعتماد الأرض المحروقة بأنواع الأسلحة المتطورة، وكلما استخدم الروس سلاحاً جديداً، ابتزوا النظام بصفقات اقتصادية تعجيزية، لضمان تبعيته لهم بعد استنزاف جنوده وتركه جثة نتنة مسلوبة الإرادةلا ينكر عاقل توافُق مصلحة الثورة مع المصالح التركية كدولة مجاورة للبقعة التي جُمع فيها المهجرون، بعد أن تخلى أصدقاء سوريا عن الثورة على رأسهم السعودية والإمارات، الروس في دورهم حاولوا حلب هذا التوافق وذهبوا لحصد الامتيازات من الضامن التركي للثورة، لكن وللأسف لم يكن يدرك معظم قادة الثورة أهمية هذا التحالف، فكان بعضهم يؤيده بشدة والبعض يحاربه ومنهم من يمشون (قدماً للأمام وأخرى للخلف) كالتي تمشي على استحياء.
استغل الروس هذا التشتت والتنافر بين الثوار حول الاتفاقات مع الضامن التركي للتوغل في المنطقة، ومتابعة الزحف شمالاً في ريف حماة على مرمى حجر من النقاط التركية، للضغط على الحاضنة الشعبية، ولقضم بعض المناطق، ولتحقيق مزيد من المكاسب، وابتزاز الأتراك لتوقيع مزيد من الصفقات الاقتصادية والعسكرية على حساب حليفها الأمريكي السابق المتورط بدعم الانقلاب ضد حكومتها الشرعية، إلا أنهم بعد التصعيد الأخير أدركوا أهمية طاولة المفاوضات وأصبحوا يبحثون عن قشة للتعلق بها، بعد أن بدأت المحرقة الروسية منذ أربعة أشهر، تلاشت بعض الأوهام في رؤوس الثوار، ولم يعد يجدي نفعاً اعتمادهم على أنفسهم أو السلاح الخفيف ومضاد الدروع الذي يقدمه الحلفاء، الذي ضعف تأثيره بعد إدخال الروس أسلحة متطورة من بينها المناظير الليلية
أُغلقت الأبواب واشتد الخناق ووجد الثوار أنفسهم جميعاً في خندق واحد، لا بد من رمي الأوهام خلفهم من مسميات حزبية وفصائلية والسعي لإنشاء جيش وطني واحد يضم جميع المقاتلين، ويقوده مجلس عسكري يدير التفاوض باسمه، بالتعاون مع حكومة واحدة لجميع المناطق المحررة، كما لا بد من رمي الاتهامات ولغة المزايدات والتخوين جانباً والترفع عنها من أجل الارتقاء إلى حجم التضحيات ودماء الشهداء على خطى الرعيل الأول
لا تزال الفرصة قائمة مع الانهيار الاقتصادي والتفتت الاجتماعي الذي نخر عظم النظام، وحصاره مع إيران من قِبل الغرب الذين يصرون على فشل "أستانا" و"سوتشي" ، ويعولون على العودة إلى مسار جنيف، وتبني قرار مجلس الأمن الدولي السابق رقم 2254 المتخذ بالإجماع بتاريخ 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015 والمتعلق بوقف إطلاق النار والانتقال السياسي والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع في سوريا.