الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الثابت والمتغير في الأزمة السورية

الثابت والمتغير في الأزمة السورية

13.02.2020
بهاء العوام



العرب اللندنية
الاربعاء 12/2/2020
تؤنب الولايات المتحدة تركيا لأنها نصحت الرئيس رجب طيب أردوغان بعدم الوثوق بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، ولم يستمع لها. وكأن واشنطن كانت أكثر وفاءً لأنقرة من موسكو وأن الرؤساء الأميركيين، على عكس الروس، وعدوا فصدقوا مع حلفائهم الأتراك والأكراد وفصائل المعارضة السورية.
يظن الأميركيون أن الروس خذلوا الأتراك في إدلب. والحقيقة أن هذا التوصيف يجافي الحقيقة تماما.
حتى لو افترضنا أنه صحيح ولا يشوبه الشك، فلا يحق لواشنطن التنظير فيه، لأنها كانت أول من بدّل المواقف وخذل الحلفاء في الأزمة السورية.
عندما خرج الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قبل ثماني سنوات ليقول إن الرئيس السوري بشار الأسد فقد شرعيته وبات عليه الرحيل، كان الرئيس الروسي يقول إن الأزمة السورية شأن بعيد عن حدود بلاده ولا يفضل حتى إبداء الرأي فيه. تمر السنون وتسمع الأميركيين اليوم يقولون إنهم لا يريدون إزاحة الأسد عن السلطة، ولا يريدون إخراج روسيا من سوريا. أولوياتهم في هذه البقعة من العالم باتت الآن تتمثل بمحاربة الإرهاب وتقليم أظافر إيران في الشرق الأوسط.
تبدلت أولويات الولايات المتحدة في الأزمة السورية إلى هذا الحد. وتبدلت معها قائمة الحلفاء أيضا، ليس فقط في الدول وإنما في الفرقاء السوريين أيضا. الحلفاء الذين صنعهم أوباما باعهم خلفه دونالد ترامب. بعضهم تبيّن لترامب أنه إرهابي ولا يستحق الدعم الأميركي، مثل بعض فصائل المعارضة المسلحة. وبعضهم الآخر منخرط في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل. وهنا نتحدث عن الكرد الذين قاتلوا داعش مع الأميركيين، ومن ثم اكتشف ترامب أنهم يحاربون الأتراك في معركة وجودية بدأت قبله وربما لن تنتهي أبدا، على حد وصف الرئيس الأميركي.
من المفارقات التي تُستدعى للتدليل على السياسة الأميركية الانتهازية في سوريا أيضاً، يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، أن التنسيق الروسي الأميركي في الحرب هناك لم ينقطع لا في عهد أوباما ولا في عهد ترامب. عندما كان أوباما يفاوض طهران في الاتفاق النووي لم تكن إسرائيل ترى خطورة في الزحف الإيراني البربري داخل سوريا، أما عندما انسحب ترامب من الاتفاق دأبت الطائرات الإسرائيلية على دك كل تحرك عسكري إيراني في سوريا مهما كان صغيرا وهامشيا.
لا تريد الولايات المتحدة أن تعترف بأن تبدل أولوياتها في سوريا مرات عدة خلال السنوات الماضية، دفع جميع الدول التي جلست معها يوما على طاولة ما يسمى بـ”أصدقاء الشعب السوري” إلى تبديل مواقفها هناك. كان من المفترض أن تكون واشنطن رأس حربة في معركة تغيير نظام بشار الأسد. وعندما تبين أن معركتها تدور في مكان آخر، باتت جميع الدول المؤيدة للمعارضة السورية في حل من التزاماتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، وحتى الأخلاقية. لا استثناء في ذلك لأي دولة، بما فيها تركيا التي تتباكى على حال المدنيين في مدينة إدلب اليوم.
الثابت الأول في الأزمة السورية كان ولا يزال منع انهيار مؤسسات الدولة وإحداث فراغ سياسي في البلاد على غرار العراق وليبيا واليمن. لا يهم كم هي الدولة هشة، وكم هي مؤسساتها معطلة أو في أدنى مستويات إنتاجها وخدمتها للسوريين. المهم أنها موجودة وقائمة لتكون أساسا لحل سياسي للأزمة لم يأت حتى الآن. ربما لن يأتي الحل أبدا، وربما تنجح موسكو في إعادة شرعية الأسد بانتظار هذا الحل. لا ضير في هذا طالما أن الدول المعنية، تركيا وإيران والولايات المتحدة، تستطيع حماية مصالحها في سوريا، وتؤسس لحضور دائم هناك يعيد رسم خرائط البلاد والمنطقة ككل لعقود عديدة مقبلة. وهذا هو الثابت الثاني في الأزمة.
مقابل هذين الثابتين كل شيء يتغير ويتبدل في سوريا. ليس بهامش بسيط وإنما باستدارات تصل إلى 180 درجة في بعض الأحيان. خصوم تحولوا إلى أصدقاء، معارضون انقلبوا إلى مؤيدين، ثوار باتوا مرتزقة أو إرهابيين، حلفاء أصبحوا أعداء، قادة أضحوا خونة، وانتصارات تبدلت إلى هزائم. الأمثلة كثيرة على ذلك.
وفي خضم التبدلات في مسارات الدول والأشخاص، تغيرت خرائط الميدان مرات عدة. وفي كل مرة يرسم الروس والإيرانيون والأتراك والأميركيون الخرائط الجديدة دون سواهم، بينما يعاني السوريون وبقية دول العالم من التداعيات.
ما يحدث في إدلب اليوم لا يخالف القاعدة أبدا. حان الوقت لرسم خرائط جديدة في الشمال السوري. يترقب الجميع مصافحة قريبة لأردوغان وبوتين، وفي الصورة يظهر ترامب وخامنئي مباركين لما تم الاتفاق عليه. لم يحن الوقت بعد ليسترد الجيش السوري الحدود مع تركيا. سيتوقف القتال في مكان ما، تكمل منه أجهزة الاستخبارات والقنوات الدبلوماسية ما بدأته الطائرات والدبابات. لا يريد أردوغان احتلال مدن في سوريا، وإنما يريد حدودا جنوبية لبلاده أكثر رحابة وأقل كردية. الروس والأميركيون والإيرانيون يتفهمون ذلك. وحتى نظام دمشق لا يمانع أبدا.
المعارك الدائرة في إدلب اليوم ليست نهاية الحرب. هناك جولات أخرى ستدور رحاها لاحقا. لم يعد أحد يمتلك مفاتيح الحل في سوريا. ورغم أن جميع الدول المعنية تحتاج لإنهاء الحرب هناك، كل لأسبابه طبعا، إلا أن الخيار الوحيد المتاح أمامها الآن هو التكيف مع المتغيرات التي تحدث بفعل الزمن في السياسة والميدان. ولأن هذه المتغيرات لا تؤثر في الثوابت القائمة، ولا تأتي بجديد حتى الآن، لا يزال الانتظار هو جل ما يملكه السوريون في حياتهم داخل وخارج بلادهم. و”كل ما يفعله الانتظار هو مراكمة الصدأ فوق أجسادنا”.