الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التوغلات التركية في سوريا: قراءة مقارنة

التوغلات التركية في سوريا: قراءة مقارنة

17.08.2019
بكر صدقي


القدس العربي
الخميس 15/8/2019
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في رسالة وجهها للشعب بمناسبة عيد الأضحى، إن الأيام القادمة ستشهد نصراً جديداً يضاف إلى سوابقه التي حدثت في "شهر الانتصارات" أي شهر آب الجاري.
كلام غريب بعدما أعلن عن اتفاق الطرفين الأمريكي والتركي على إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية في شرق نهر الفرات، فيما اعتبر قطعاً للطريق أمام أي توغل عسكري أحادي كانت أنقرة تهدد به طوال الأسابيع الماضية. يضاف إلى ذلك تصريح وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو الذي قال فيه إن تركيا لن تقبل بمماطلة أمريكية جديدة على غرار ما حدث سابقاً بشأن منبج. أما وزير الدفاع خلوصي آكار فقد تحدث بوضوح أكثر حين قال، في مقابلة تلفزيونية، إن الخطة (ب) أو (ج) موجودة على الطاولة إذا لم يلتزم الأمريكيون بتعهداتهم بشأن البدء بإنشاء المنطقة الآمنة.
تعزز هذه التصريحات المفعمة بالتهديد الفكرة القائلة إن اتفاق أنقرة الأخير بشأن المنطقة الآمنة هو مجرد ترحيل للخلافات بين الجانبين من خلال إحالتها إلى مركز عمليات مشترك لتنفيذ ما اتفق عليه.
لم يكن الأتراك بحاجة إلى ابتزاز مماثل للروس ومفاوضات شاقة معهم، على المستوى العلني على الأقل، لتنفيذ توغلهم الأول داخل الأراضي السورية في جيب جرابلس – الباب – إعزاز، آب 2016، بل كان الأمر نوعاً من المقايضة بين هذه المنطقة والقسم الشرقي من مدينة حلب الذي تم تسليمه للنظام وروسيا. وكان المطلب التركي، آنذاك، يتلخص في "قطع الكوريدور الكردي" الممتد من الحدود العراقية إلى الجبال المطلة على البحر الأبيض المتوسط، بدق إسفين يمتد من جرابلس إلى إعزاز، ويتعمق وصولاً إلى مدينة الباب القريبة من حلب. وساعد على تسويق الدعوى التركية أن غالبية سكان هذه المنطقة هم من العرب، وينظرون عموماً بود إلى الدور التركي، مقابل عدائية صريحة تجاه القوات الكردية التي كانت تحاول ربط عفرين بكوباني اللتين تسيطر عليهما.
من شأن "كوريدور السلام" المفترض إقامته أن يريح تركيا من عبء اللاجئين السوريين من جهة أولى، وأن يقوي الموقف التركي في أي مفاوضات قادمة على مستقبل سوريا من جهة ثانية
أما عملية "غصن الزيتون" التي استهدفت، في شباط 2018، منطقة عفرين ذات الغالبية السكانية الكردية، وكانت وحدات الحماية تسيطر عليها بالكامل، فهي تختلف كثيراً عن عملية "درع الفرات". فقد كانت في إطار مقايضة أخرى بينها وبين الغوطة الشرقية عند أطراف العاصمة دمشق، وشهدت تغييراً ديموغرافياً بنتيجة إفلات فصائل تابعة لأنقرة تعاملت مع عفرين كأرض غريبة محتلة، فطرد قسم من سكانها، وأحل محلهم مرحلون من الغوطة وغيرها من المناطق البعيدة التي أعاد النظام السيطرة عليها. وكان ذلك بمثابة رد انتقامي، من قبل تلك الفصائل، على عمليات تهجير قسري مارستها وحدات الحماية الكردية، سابقاً، في تل أبيض وريفها وفي بعض قرى ريف حلب الشمالي كتل رفعت وجوارها. ربما يمكن القول إن عمليات الترحيل المتبادلة للسكان هذه بين قوات كردية وأخرى عربية هي أخطر ما حدث في الصراع السوري، لأنها تحمل بعض سمات الحرب الأهلية التي يطلقها الغرب على الصراع السوري ككل، بلا وجه حق، منذ سنوات. وزرعت تلك العمليات بذور عداء قد يدوم طويلاً بين كرد البلاد وعربها، بسبب التحريض المتبادل ولغة الكراهية التي طفت على سطح الرأي العام.
من منظور التوازنات الدولية، يختلف الموقف الراهن بشأن شرقي الفرات عن كل من "درع الفرات" و"غصن الزيتون" في أن الطرف الآخر في المعادلة، اليوم، هو الولايات المتحدة، مقابل روسيا في الأمس. وتحاول أنقرة، منذ العام 2016، أن تلعب على حبل مشدود بين واشنطن وموسكو، مخاطرةً بفقدان تحالفها الاستراتيجي مع الأولى، من غير ضمانات لتحالف استراتيجي بديل مع الثانية. وفي حين تستخدم موسكو تركيا لإحداث شرخ في الحلف الأطلسي وفي إيجاد مخرج سياسي مناسب لها من الصراع السوري، تسعى واشنطن إلى عدم خسارة تركيا بصورة نهائية لمصلحة روسيا، على رغم عدم رضاها عن السياسات التركية، وضغوطها المتواصلة عليها بسبب ذلك. وهذا ما يمنح تركيا هامش مناورة بين موسكو وواشنطن، وأدوات لابتزازهما. كذلك تراهن تركيا على غموض الاستراتيجية الأمريكية في سوريا، إن لم نقل غيابها، وتباين الأهداف بين البيت الأبيض من جهة وباقي مؤسسات الحكم في واشنطن من جهة ثانية.
وإذا كان "قطع الكوريدور الكردي" على طول الحدود الجنوبية لتركيا هو الدعوى التي سوغت بها أنقرة غزوها لمنطقة "درع الفرات" فالقضاء على وحدات الحماية الكردية التي تعتبرها منظمة إرهابية هي التسويغ الرسمي المعتمد في كل من "غصن الزيتون" وشرقي الفرات. وانضاف هدف جديد للعملية المحتملة شرقي نهر الفرات، هو "إنشاء كوريدور سلام" لإيواء اللاجئين السوريين في تركيا الذين بدأ التعامل الرسمي معهم يتغير باتجاه ضرورة التخلص منهم. وهو ما يمكن أن يلاقي استحساناً روسياً لأن هذا الهدف يتسق مع المساعي الروسية لمقايضة الدول المقتدرة بين إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار.
لا يمكن توقع القرارات التي يمكن لشخصية مثل دونالد ترامب أن يتخذها. صحيح أن البنتاغون والخارجية عاندتا قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا، أواخر العام الماضي، فبقي نحو ألف عنصر منها إلى الآن، ولكن الانتخابات الرئاسية باتت على الأبواب، ولا أحد يملك التكهن بموعد سحب آخر جندي أمريكي من سوريا. وهل ستنفع مع ترامب ذريعة محاصرة النفوذ الإيراني في سوريا للإبقاء على تلك القوات في سنة الانتخابات، أم ذريعة حماية "قوات سوريا الديمقراطية" من غزو تركي محتمل؟
إذا سارت الأمور، بشأن الاتفاق الأمريكي – التركي، كما يريد لها أردوغان أن تسير، فمن شأن "كوريدور السلام" المفترض إقامته أن يريح تركيا من عبء اللاجئين السوريين من جهة أولى، وأن يقوي الموقف التركي في أي مفاوضات قادمة على مستقبل سوريا من جهة ثانية، وأن تتيح لها عملية إعادة الإعمار الخاصة بالمناطق التي تسيطر عليها مخرجاً من أزمتها الاقتصادية المتفاقمة، من جهة ثالثة، فضلاً عن ترميم علاقاتها المتدهورة مع واشنطن.
ولكن لا شيء من كل ذلك يمكن ضمانه.