الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التمدد في الفراغ: خريطة التنافس الدولي حول المساحات الأمريكية 

التمدد في الفراغ: خريطة التنافس الدولي حول المساحات الأمريكية 

08.09.2020
د. ماجد الأنصاري



الشرق القطرية 
الاثنين  7/9/2020  
هناك توافق عام على تراجع النفوذ الأمريكي، وخاصة في عهد الرئيس الحالي الذي نجح في كشف حقيقة هذا التراجع، وتأكيد الحاجة إلى البحث عن بدائل لدى الحلفاء 
 التحرك في شرق المتوسط اليوم هو دلالة على أن تركيا تنزع تدريجياً عباءة التبعية لصالح عباءة الشراكة في موقعها من القوى الدولية 
هناك إسطوانة مشروخة تتردد منذ عام 2008 تقريباً على ألسنة المتابعين والمعلقين السياسيين حول العالم، وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تنسحب من دورها كقطب أوحد عالمياً، يترافق ذلك مع التكهنات حول عودة العالم متعدد الأقطاب، وهو شكل النظام الدولي ما قبل الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أن الخلاف يبدأ مع الحديث عن طبيعة هذا الانسحاب الأمريكي وماهيته، إلا أن هناك توافقاً عاماً على تراجع النفوذ الأمريكي، وخاصة في عهد الرئيس الحالي الذي نجح في كشف حقيقة هذا التراجع، وتأكيد الحاجة إلى البحث عن بدائل لدى الحلفاء، هذا الانسحاب بطبيعة الحال يخلف فراغات ضخمة عالمياً، تتكشف مع كل حدث دولي ونزاع إقليمي، وبما أنه لا يمكن لفراغ سياسي أن يبقى كذلك طويلاً، تتحرك القوى الكبرى والوسيطة لملء الفراغ عالمياً، فما هذه القوى؟ وكيف تتجه نحو استبدال تأثير واشنطن؟. 
الغريم التقليدي لواشنطن هو - بلا شك - روسيا ومن قبلها الاتحاد السوفييتي، ومنذ عام 2008 حين دعمت موسكو انفصاليي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ضد الحكومة الجورجية المدعومة أوروبياً، بدأ مشروع العودة الروسي ليمر على أوكرانيا وسوريا وليبيا وأفغانستان، عبر تدخلات عسكرية مباشرة أو حروب بالوكالة أو جيوش من المرتزقة، ويكاد يكون العنوان الأبرز لهذه التدخلات هو اختبار صلابة تحالفات واشنطن، ولكن على الرغم من هذا الحراك النشط إلا أن هناك حدوداً للقدرات العسكرية والسياسية الروسية، عسكرياً وعلى الرغم من القدرات الكبيرة للجيش الروسي إلا أنه لا يتمتع باقتصاد مزدهر صلب داعم له كما هو الحال مع واشنطن، ولذلك رأينا أنه على الرغم من نجاح روسيا في تحقيق مآربها في سوريا، إلا أنها لجأت إلى إجراءات لخفض النفقات من قبيل البراميل المتفجرة واستخدام المرتزقة، والاقتصاد الروسي بشكل عام ليس في حالة نمو حقيقي خاصة مع انخفاض أسعار النفطـ، أما سياسياً فلم ينجح فلاديمير بوتين في تكوين شبكة تحالفات عبر تحركاته توفر له غطاءً سياسياً، فشبكة التحالفات الروسية لا تكاد تضم سوى دول هشة وفاشلة أو لاعبين صغار، حتى يمكن لروسيا التمدد أكثر دون المغامرة بوضعها الداخلي هي بحاجة لاقتصاد أكثر ازدهاراً وتحالفات أوسع. 
الصين بدورها تعتبر المرشح الأوفر حظاً لخلافة واشنطن، أو على الأقل تقاسم الساحة معها دولياً، إلا أن السياسة الصينية كانت قائمة على مبدأ الانعزالية وعدم التدخل في النزاعات الدولية، بدأ هذا يتغير تدريجياً مع الرئيس الحالي الذي أقدمت حكومته على التوسع في بحر الصين عسكرياً في مناطق متنازع عليها، من خلال جزر صناعية ومطارات عسكرية أثارت حفيظة الجيران من حلفاء واشنطن، ما استرعى حينها اهتمام إدارة أوباما التي وضعت مواجهة الصين في تلك المنطقة ضمن أولوياتها، ولكنها، كما فعلت مع بقية الملفات، تركت المسألة معلقة وجاءت إدارة ترامب بسلوكها المرتبك دولياً لتتيح فرصة أكبر للصين للتمدد في نطاقها الاستراتيجي، وبشكل مواز جاء مشروع الحزام والطريق والوجود العسكري الصيني في القارة السمراء، ليمثل تغيراً استراتيجياً بالنسبة للصين وتكشيراً لأنيابها كقوة عظمى، ما زال الطريق طويلاً أمام الصين التي على الرغم من امتلاكها جيشاً جباراً إلا أنها ما زالت بحاجة إلى بناء قدراتها الثقيلة فهي لا تملك سوى حاملتي طائرات اثنتين في مواجهة 43 لدى واشنطن، ناهيك عن التباين في عدد القواعد العسكرية خارج حدود البلاد، حيث لدى بيجين قاعدة واحدة في جيبوتي مقابل مئات القواعد الأمريكية والتي تصل إلى 500 قاعدة حسب بعض التقديرات في 70 دولة تتوزع بين جميع قارات العالم باستثناء أنتاركتيكا و7 أساطيل تجوب بحار العالم. 
في المستوى الثاني نجد اللاعبين الإقليميين الكبار الذين يسعون لملء الفراغ في أقاليمهم دون منافسة واشنطن بالضرورة، الهند مثلاً والتي ما زالت تعزز تحالفها مع واشنطن بدأت تشاكس جيرانها من جديد، ويأتي في هذا الإطار الأزمة الأخيرة مع باكستان والتوتر الحدودي مع الصين، ولدى الحزب الحاكم الهندي موقف قومي متشدد، وشهية مفتوحة لمواجهة الخصوم والتمدد في المحيط المباشر، من ناحية أخرى نجد تركيا والتي جعل منها أردوغان قوة إقليمية من جديد، اليوم تواجه تركيا محور السعودية والإمارات في الشرق الأوسط، تعمل بفاعلية في ملفات المنطقة في مواجهاتها المتكررة مع سياسات الكيان الصهيوني، ودعم حكومة الوفاق في ليبيا وفي سوريا والعراق، ولكنها في الوقت نفسه تسعى للتحرر من القيود المفروضة عليها في اتفاقيات ما بعد الحربين العالميتين، فالتحرك في شرق المتوسط اليوم هو دلالة على أن تركيا تنزع تدريجياً عباءة التبعية لصالح عباءة الشراكة في موقعها من القوى الدولية، وعلى عكس عام 96 حينما كان التدخل الأمريكي باتصال هاتفي كفيلاً بخفض التوتر مع اليونان اليوم هناك مطالب تركية صارمة، ومن يتدخل كألمانيا يفعل ذلك في إطار مفاوضات بين الطرفين لا إملاءات. 
لا شك أن الخريطة أعقد بكثير مما تم عرضه هنا، ولكن هذه التحركات تمثل عينة من محاولات ملء الفراغ التي ستتزايد وتيرة وحدة في المرحلة القادمة، والقادم من النزاعات سيكون نتيجة التحام خطوط التماس بين هذه القوى الدولية والإقليمية بما فيها واشنطن، في إطار محاولات ملء الفراغ، ومن نافلة القول أن نذكر بأنه لا تغيير هيكليا في النظام الدولي يتم دون مرحلة إعادة ضبط للساحة الدولية، بما يعنيه ذلك من نزاعات مسلحة وحروب متعددة الأطراف، معيار النجاح بالنسبة للدول الأصغر حجماً في المرحلة القادمة هو إتقان لعبة التوازن بما يوفر الردع المناسب أمام الطامعين والقيمة المضافة المناسبة للحلفاء.