الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التغيير المنشود بين الرغبة والوعي

التغيير المنشود بين الرغبة والوعي

22.11.2018
حسن النيفي


سوريا تي في
الاربعاء 21/11/2018
بعيداً عن الإرهاصات السياسية لثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، فإن ثمة آفاقاً جديدة أتاحت للسوريين أن يتحدثوا بما كان مسكوتاً عنه من ذي قبل، وأن يفكروا جهراً بقضايا ومسائل كانت مردومةً بفعل كوابح الخوف التي مورست عليهم خلال عقود من الزمن. ولعلّ هذا الأمر هو معطى طبيعي للثورات عبر التاريخ، والتي غالباً ما تتلازم فيها عملية التغيير السياسي بعملية محايثة، أعني تحرير الوعي، وتحفيز الإرادة والفكر بغية اختراق كوابح الواقع المفروض أو المعتاد.
حديث الكثير من السوريين – اليوم – عن الحريات بكل أنواعها وأشكالها، وحديثهم عن الحقوق المشروعة للأفراد والجماعات، وكذلك نقاشاتهم حول الديمقراطية والمواطنة وشكل نظام الحكم، كل ذلك يأتي في سياق الاستجابة لضرورة التغيير من جهة، وكذلك في سياق البحث عن بقعة ضوء تلوح في نهاية النفق المظلم.
وفي ظل انحسار الحوامل الحقيقية لأي مُنجز سياسي سوري ضمن الظروف
سارع البعض للدعوة إلى تشكيل أحزاب سياسية جديدة، باعتبارها الشكل الأمثل للتعبير عن الرأي، كما بادر البعض الآخر إلى تشكيل منتديات حوارية
الراهنة، فإن الحراك في الجانب الثقافي والاجتماعي سيكون هو الأرحب أمام جميع الأطراف المجتمعية، سواء المتوافقة منها أو المتخالفة أو المتخاصمة، لكي تقول أو تطرح ما تشاء.
اتخذ هذا الحراك – منذ انطلاقة الثورة – أشكالاً شتى للتعبير عن نفسه، إذْ سارع البعض للدعوة إلى تشكيل أحزاب سياسية جديدة، باعتبارها الشكل الأمثل للتعبير عن الرأي، كما بادر البعض الآخر إلى تشكيل منتديات حوارية، تتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للقاء الأطراف المتحاورة، ولكن الملاحظ أن نسبة السوريين الذين غادروا البلاد هم الأكثر إقبالاً على هذا الشكل من الحراك، ولعل ذلك يعود إلى الظروف التي تتيحها دول اللجوء، من شعور بالأمان ووفرة في الخدمات ، وكذلك الوفرة في الوقت، وما هو مؤكد أن جميع هذه الأشياء ليست متاحة في الداخل السوري، حتى في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد، دعك من الحديث عن ظروف المواطنين الذي يعيشون في مناطق أخرى، إذ إن حالة الضيق الاقتصادي والفوضى الأمنية وندرة الخدمات لا تتيح مزيداً من التفكير سوى لتأمين مستلزمات الحياة الضرورية.
ومع ازدياد مأساة السوريين عمقاً واتساعاً، يزداد زخم هذا الحراك صعوداً، ويتخذ عدة أشكال، لعلّ أبرزها شكلان اثنان: الأول ذو طابع ثقافي اجتماعي، لا يميل أصحابه إلى التقيّد بطرح مسائل محددة، وإن تناولوا أمراً ذا علاقة مباشرة بالشأن العام، فليس بالضرورة أن تكون معالجته ضمن أطر ونواظم معينة، بل ربما يتشعب الحوار، ويتداعى إلى مسائل أخرى، وهكذا تغدو هذه الحواريات هي أقرب إلى الدردشة اليومية التي يكون مبعثها لدى البعض هو الشعور بفائض الوقت لا أكثر. أما الشكل الثاني فيغلب عليه الطابع السياسي والفكري، وأغلب روّاد هذه الحواريات هم من القوى والأحزاب أو الكيانات السياسية، وكذلك الأفراد أصحاب المثابرة على متابعة الشأن العام. يطمح هؤلاء إلى أن تكون هذه التجمعات فرصةً لحوار جاد يهدف إلى البحث في سبل تفعيل الحراك السياسي الشعبي، وكيفية استثمار حراك السوريين في الداخل وأماكن اللجوء، من أجل بلورتها في مواقف تخدم القضية السورية، وقد شهدنا في أعقاب اتفاق سوتشي الأخير بين تركيا وروسيا، الذي أفضى للحيلولة دون عدوان جديد على إدلب ( في الوقت الراهن)، حراكاً شعبياً في الداخل السوري، متناغماً مع حراك في بلدان اللجوء، وكلا الحراكين حاولا استثمار المعطيات الجديدة، وجعْلها منطَلقاً لحملةٍ شعبية على نطاق واسع، تؤكد على الحقوق الجوهرية للسوريين، ولعل أهمها قضية المعتقلين في سجون النظام، وكذلك رفضهم لاختزال القضية السورية بتشكيل لجنة دستورية.
ثمة مقاربات أخرى، يطمح من خلالها العديد من الناشطين إلى إنشاء تحالفات سياسية، أو إيجاد كيانات تستقطب مجموعات متعددة من القوى والفعاليات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، بغية الالتفاف حول برنامج عمل مشترك يجسّد القواسم المشتركة بين الأطراف جميعها، وربما جنحت هذه المقاربات إلى البحث في مستقبل البلاد وشكل نظام الحكم وقضايا الديمقراطية والمواطنة وحقوق الجماعات وما إلى ذلك، وذلك في ظل شعور هؤلاء جميعاً بأن الكيانات الرسمية للمعارضة السورية لم تفلح بأداء مهامها، فضلاً عن مصادرتها لحق أصحاب الكفاءة والخبرة من استثمار خبراتهم في خدمة قضيتهم، بالإضافة إلى شعورهم - أيضاً – بفقدان السوريين لقرارهم الوطني، وهيمنة مصالح الأطراف الإقليمية والدولية على القضية السورية.
إن ازدياد المشهد الحواري عبر الوسائل الافتراضية، زخماً وحرارة، لا يعني بالضرورة أننا نشهد بموازاته نتاجاً إيجابياً على الدوام، ولا يمكن القول: إنه يجسّد ردّة الفعل الشعبية الحقيقية على الراهن الصعب للسوريين، ولكن ما يمكن تأكيده هو أننا أمام ظاهرة، تحيل إلى رغبة شريحة كبيرة من السوريين في ارتياد آفاق لم تكن مشرعة أمامهم من قبل، كما تؤكد الرغبة في اجتراح طبقات جديدة من الوعي، ربما تزيد السوريين استبصاراً بقضاياهم ومشكلاتهم.
 إلّا أن الرغبة في التفكير وطرح الحلول، ضمن أُطر التواصل التي أشرنا إليها، غالباً ما تنحو باتجاه آخر، أي إنها تعكس
أصبح من المعتاد أن نسمع ونرى أكثر من مسعى لمثقفين وسياسيين يعودون إلى العشيرة، باعتبارها الحاضنة الأمثل للتعبير عن الذات والرأي
الوجه الثاني لشكل من أشكال الوعي يدّعي الرغبة في الصعود إلى الأعلى، والانعتاق من العبودية، إلّا أنه يحمل في كوامنه عوامل ارتكاسه التي تشدّه نحو الأسفل، ولا تتيح له مغادرة أنفاقه التي اعتاد ظلامها، ولعلّ المؤلم في الأمر أن هذه الأشكال من الارتكاسات بدأت تتجلّى لدى قطاعات واسعة تعدّ نفسها محسوبة على النخب السياسية والثقافية والاجتماعية، بل ولا تتوانى من طرح ذاتها كسفينة إنقاذ للثورة، إذ أصبح من المعتاد أن نسمع ونرى أكثر من مسعى لمثقفين وسياسيين يعودون إلى العشيرة، باعتبارها الحاضنة الأمثل للتعبير عن الذات والرأي، وثمة مسعى آخر لمجموعة بشرية مماثلة يتجه نحو قريته أو منطقته، ولا يرى سوريا إلّا من خلالها، وقد نشهد في اليوم التالي ولادة كيان سياسي يحمل اسم البلدة أو المنطقة، وأحيانا يبرر أصحاب هذا المسعى صنيعهم بكون الأرض السورية أصبحت تحت نفوذ تقاسم دولي، لا يتيح العمل على نطاق أبعد من المناطقية، ولكن المسألة الأكثر استغراباً هي عودة أصحاب الإيديولوجيات الكونية، والعابرة حتى للقومية، إلى حواضنهم الطائفية، وحينها تكتشف أن نضالهم الأممي الإنساني طيلة عقود من الزمن، لم يكن سوى خطاب يملأ الأفواه، ولكن قلّ أن يتجذّر في الوعي.
هل يرغب أكثر السوريين بالتغيير؟ قد يكون هذا مؤكداً، ولكنها تبقى مجرد رغبة ما لم تقترن بوعي سليم للتغيير المنشود.