الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التعاون الروسي - التركي: مناطق رماديّة واقتصاد مكثّف

التعاون الروسي - التركي: مناطق رماديّة واقتصاد مكثّف

23.01.2017
أسامة مصالحة


الحياة
الاحد 22/1/2017
لم تعد روسيا "قلعة الشيوعية"، كما كانت من قبل، وليس في وسع تركيا أن تظل "قاعدة أطلسية" الى اﻷبد. فالمبادئ والتحالفات والمصالح والتوجهات تتغير، بل إن هناك في الغرب من بات يطلق تعبير "الإمبرياليات الجديدة" على كليهما، مطالباً بتوسيع مدى العقوبات الاقتصادية على اﻷولى وتطبيق عقوبة إسقاط الترشح لعضوية الاتحاد اﻷوروبي على الثانية، استناداً الى قناعة مفادها أن ثمة مؤشرات تفيد ببدء تبلور "تعاون استراتيجي" بين القوتين الصاعدتين، تعاون قد يرتقي الى مستوى التحالف.
"ممرّ الطاقة"، في نظر هؤلاء، هو كلمة السر والقاعدة والنواة الصلبة في هذا التعاون المزعوم. و"الممر" المذكور، أو "السيل الجنوبي"، عبارة عن شبكة عملاقة من خطوط أنابيب الغاز تضم القوقاز وآسيا الوسطى وتربط الصين بشرق البحر اﻷبيض المتوسط عبر تركيا.
والى جانب الطاقة، يرى هؤلاء أن التجارة تلعب دوراً حيوياً في هذا التعاون بين القوتين، إذ تستورد تركيا ستين في المئة من حاجتها الى الغاز من روسيا، ويقترب حجم الميزان التجاري بين البلدين الى حدود الثلاثين بليون دولار. هذا كله من دون ذكر المشروع الروسي لبناء أول محطة للطاقة النووية في تركيا هي محطة أكويو.
وإذا كانت "السياسة اقتصاداً مكثفاً"، فإن حجم هذه المصالح الاقتصادية الضخمة يدفع بتركيا، أكثر فأكثر، الى التوقف عن لعب دور "القاعدة الأطلسية" الملحقة بالغرب والمعادية لروسيا. لهذا لم تجد "تركيا الجديدة" نفسها ملزمة بالتناغم مع استراتيجية الحلف الأطلسي الجديدة الداعية الى مواجهة "غزو روسي محتمل لأوروبا"، وهي رفضت، ولا تزال، الالتزام بالعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا إثر الأزمة الأوكرانية.
وإذا كانت الرؤية الروسية لهذا التعاون لا تحتاج الى تحليل، كونها تستند الى سياسة براغماتية صرفة وتشتغل على خلق اختراقات داخل منظومة حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، فإن الرؤية التركية تحتاج الى بعض التوضيح:
وفق قواعد اللعبة الجديدة، التي صممها حزب العدالة والتنمية، لن تقبل تركيا بلعب دور الوكيل لسياسات الغرب واستراتيجيته الى ما لا نهاية. فلتركيا، في نظر الحزب، ماضٍ تليد يتمثل بالإرث العثماني. ولقد كان الغرب بالذات هو من قطع أوصال الإمبراطورية عندما أبرم الصفقات السرية التي أدت الى تقسيمها وانهيارها. وصفقة سايكس - بيكو - سازانوف، أو اتفاق آسيا الوسطى، كانت واحدة من أكثر تلك الصفقات ضرراً بالمصالح الحيوية لتركيا. إعادة تصويب مسار التاريخ، على ما يعتقد حزب العدالة، إذاً، هي المهمة الكبرى التي يعتقد أنه يجب على تركيا الجديدة إنجازها. وتتمثل هذه المهمة بإعاده بناء مجد الإمبراطورية العثمانية، التي لن تكون إعادة بناء مجدها ممكنةً عبر توسل عضوية اتحاد أوروبي متهاو تعصف به اﻷزمات من كل جانب.
عندما صرح الرئيس التركي طيب رجب أردوغان، قبل فترة، أنه يجب إبعاد "اللورنسات العرب" الجدد من المنطقة، كان كمن يحيل الى ذاكرة قديمة، تستحضر "الخيانة" التي تعرضت لها الدولة العثمانية من طرف الغرب ويحذر من إعادة تكرارها. في هذا، هو يتقدم خطوات باتجاه روسيا، لكنه يبتعد أميالاً من الاتحاد الأوروبي.
ومن الواضح أن ثمة تقارباً بين القوتين، لكن القول أن هذا التقارب سيرتقي الى مستوى التحالف فيه كثير من المبالغة، فستظل هناك مناطق رمادية تمنع تركيا من رفع مستوى العلاقة بينها وبين روسيا الى مستوى التحالف الاستراتيجي: الملف السوري الحارق، والمسألة الكردية المدمرة، والنظام الإقليمي وبنيته وتوازناته. تُضاف الى ذلك طموحات تركيا السياسية في المناطق المحيطة وتلك "النزعة الطورانية" الداعية الى ضم الشعوب الناطقة بالتركية في كازاخستان وغيرغيستان وتركمانستان وأوزبكستان وتتار جزيرة القرم، وهي الدول التي تتمتع فيها روسيا بنفوذ عسكري وسياسي فريد بعدما غيرت خريطتها الديموغرافية في الزمن السوفياتي.
هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى، فقد طوّقت روسيا تركيا بالقواعد العسكرية الاستراتيجية من كل الاتجاهات: وجود عسكري روسي في قاعدة حميميم في اللاذقية، وقاعدة غيماري الأرمنية اللصيقة بالحدود التركية مع أرمينيا، وقاعدة همذان في إيران، وقاعدة غوداوتا في أبخازيا الجنوبية في جورجيا، وأسطول البحر الأسود في البحر الأسود، وغواصات نووية في البحر الأبيض المتوسط.
وكمن يمشي على حبل مشدود بين جبلين مرتفعين وتحته وادٍ سحيق، تترنح السياسة التركية، فإذا مالت باتجاه روسيا كثيراً واجهت خطراً محدقاً على مصالحها من طرف الاتحاد الأوروبي وأميركا، وإذا مالت باتجاه الاتحاد الأوروبي أكثر واجهت خطراً محدقاً على مصالحها من طرف روسيا. لهذا كله ستظل علاقات تركيا بروسيا، كما هي حالياً مع أوروبا وأميركا، تتعرض للرد والأخذ، وللجذب والنبذ حتى إشعار آخر.