الرئيسة \  تقارير  \  التضخم... الأسباب الحقيقية

التضخم... الأسباب الحقيقية

30.11.2021
بول كروغمان


الخليج الجديد
الاثنين 29/11/2021
يبدو أن التغير في أنواع الطلب جراء الوباء هو الذي يقف وراء التضخم الحالي وليس الإنفاق المفرط والشامل.
الدعوات الموجهة لـ”الاحتياطي الفيدرالي” لرفع معدلات الفائدة بهدف خفض حرارة الاقتصاد تبدو مبكّرة وسابقة للأوان.
الأجور الآخذة في الارتفاع ليست السبب الرئيس للتضخم ولو كانت كذلك لما كان متوسط الأجور متخلفاً عن أسعار المستهلك.
حتى لو ظل التضخم مرتفعاً لبعض الوقت فالسؤال: هل نريد حقاً إبطاء الاقتصاد برمته لأن الاختناقات تتسبب في ارتفاع بعض الأسعار؟
هل كانت خطة الإنقاذ كبيرة بشكل مفرط مما تسبب في نمو الطلب الإجمالي أسرع من العرض وبالتالي تتسبب بارتفاع الأسعار والتضخم بلغ أعلى مستوى منذ 1990.
الطلب الإجمالي النهائي لم يرتفع بالسرعة التي يتصورها البعض فهو أعلى بـ 3.8% مما كان عليه قبل عامين، في اقتصاد تنمو قدرته عادة بنحو 2% سنوياً.
الطلب تغير: خلال فترة الجائحة كان الناس يستهلكون خدمات أقل ولكنهم كانوا يشترون الكثير من السلع المعمرة: أجهزة منزلية، معدات تمارين رياضية، إلخ.
*     *     *
في وقت مبكر من هذا العام، حذّر بعض الاقتصاديين المرموقين من أن “خطة الإنقاذ الأميركية” التي أتى بها الرئيس جو بايدن – مشروع القانون الذي بعث للأميركيين شيكات الـ1400 دولار – قد تتسبب في التضخم.
والواقع أن أشخاصا مثل لاري سمرز، الذي كان كبير مستشاري باراك أوباما الاقتصاديين، وأوليفييه بلانشرد، وهو مسؤول اقتصادي سابق في صندوق النقد الدولي، ليسوا من “صقور” عجز الميزانية الغافلين، بل على العكس تماماً.
فقبل أزمة كوفيد، دافع سمرز عن استمرار الإنفاق بالعجز لمحاربة الضعف الاقتصادي، وبلانشرد كان من أبرز منتقدي التقشف المالي في أعقاب أزمة 2008 المالية.
لكن سمرز وبلانشرد وآخرين حاججوا بأن خطة الإنقاذ، التي كانت ستمثل نحو 8% من الناتج المحلي العام، كبيرة بشكل مفرط، وبأن من شأنها أن تتسبب في نمو الطلب الإجمالي بشكل أسرع من العرض، وبالتالي، تتسبب في ارتفاع الأسعار. والأكيد أن التضخم بلغ أعلى مستوياته منذ 1990.
وبالتالي، فإنه يمكن تفهم رغبة “فريق التضخم” في الانتشاء بالنصر. غير أنك حين تنظر لما وراء أرقام التضخم، ترى قصة مختلفة عما توقعه سمرز وبلانشرد وآخرون.
وبالنظر إلى قصة التضخم الحقيقية، فإن الدعوات التي توجه إلى “الاحتياطي الفيدرالي” من أجل رفع معدلات الفائدة بهدف خفض حرارة الاقتصاد تبدو مبكّرة وسابقة للأوان في أحسن الأحوال لعدة أسباب.
فأولاً: الطلب الإجمالي لم يرتفع بكل تلك السرعة التي يتصورها البعض في الواقع، ذلك أن الطلب المحلي النهائي الحقيقي (“النهائي” يعني استبعاد التغييرات في المخزونات) أعلى بـ 3.8% مما كان عليه قبل عامين، في اقتصاد تنمو قدرته عادة بنحو 2% سنوياً.
صحيح أن موجة الاستقالات الكبيرة –عدم رغبة العديد من الأميركيين الذين توقفوا عن العمل بسبب كوفيد-19 في العودة إلى القوة العاملة– تعني أن أسواق العمل تبدو ضيقة جدا في ظل ارتفاع معدلات الاستقالة وارتفاع الأجور، رغم أن الناتج المحلي الإجمالي ما زال دون الاتجاه العام الذي كان عليه قبل الوباء.
وبالتالي، فإن العرض ما زال أقل مما توقعه معظم الاقتصاديين (بمن فيهم “فريق التضخم”)، والاقتصاد قد يكون بالفعل محموماً.
غير أن كل ما كنا نظن أننا نعرفه من الماضي كان يقول إنه إذا كان رفع حرارة الاقتصاد بشكل مفرط، يؤدي بالفعل لارتفاع التضخم، فإن تأثيره متواضع على المدى القصير، ثم إن تلك الأجور الآخذة في الارتفاع ليست السبب الرئيسي للتضخم، ولو كانت كذلك، لما كان متوسط الأجور متخلفاً عن أسعار المستهلك.
ولكن إذا كان الأمر كذلك، فماذا يجري؟ بنك التسويات الدولية– وهو مؤسسة مقرها في سويسرا، وتُعد بمثابة بنك لبنوك العالم، ولديها فريق مذهل من الباحثين– يحاجج بأن الأمر يتعلق بالاختناقات بشكل رئيس، والمقصود بذلك التأخر والازدحام اللذان أصبحا شهيرين الآن، واللذان تعرفهما سلاسل الإمداد بسبب إبحار سفن جيئة وإيابا أمام لوس أنجلوس وإغلاق بعض المصانع بسبب عدم توافر الرقائق الإلكترونية.
ما الذي يتسبب في هذه الاختناقات؟ الواقع أن الطلب الإجمالي ما زال دون الارتفاع الذي قد يتصوره البعض، لكن الطلب تغير: ذلك أنه خلال فترة الجائحة، كان الناس يستهلكون خدمات أقل ولكنهم كانوا يشترون الكثير من السلع المعمرة – أجهزة منزلية، معدات التمارين الرياضية، إلخ.
وهذه الزيادة في الطلب على السلع المعمرة خلقت ضغطاً هائلاً على الموانئ وشاحنات النقل والمستودعات، التي توصل السلع المعمرة إلى المستهلكين، ما يؤدي إلى ارتفاع سريع في أسعار المواد التي يفترض أن تنخفض أسعارها عادة مع الوقت بالتوازي مع تقدم التكنولوجيا.
بعبارة أخرى، يبدو أن التغير في الطلب جراء الوباء هو الذي يقف وراء التضخم الحالي، وليس الإنفاق المفرط والشامل.
والأكيد أن استيعاب هذا الأمر مهم جداً لأن لديه تداعيات كبيرة على فهمنا للماضي القريب وللسياسة المستقبلية لجملة من الاعتبارات. فأولاً، نظراً لأن التضخم يعكس الارتفاع الضخم في الطلب على السلع المعمرة، وليس على النمو الأبطأ بكثير في الطلب الإجمالي، فإن خطة إنفاق أصغر لبايدن ما كانت لتُحدث فرقاً كبيراً.
وحتى لو كان الطلب أقل بنقطة أو نقطتين، فإن الإقبال على شراء أشياء، وليس خدمات، كان سيشكّل مع ذلك عبئاً كبيراً على طاقتنا اللوجستية. ثانياً، لأن التضخم يعكس الاختناقات، بدلاً من مشكلة عامة ناتجة عن مصادرة الكثير من المال للقليل من السلع، فإنه يُتوقع أن ينخفض بالتوازي مع تكيف الاقتصاد مع الوضع الجديد.
صحيح أن التضخم لم يكن عابراً كما كنا نأمل، ولكن هناك أدلة متزايدة على أن سلاسل الإمداد أخذت تتعافى وتتخلص من حالة الضغط التي أشرنا إليها آنفاً، الأمر الذي من المتوقع أن يوفر راحة للمستهلك في نهاية المطاف.
وأخيراً، حتى في حال ظل التضخم مرتفعاً لبعض الوقت، فإن السؤال هو: هل نريد حقاً إبطاء الاقتصاد برمته لأن الاختناقات تتسبب في ارتفاع بعض الأسعار؟
إن إحدى الطرق لوصف الحجة التي يدفع بها صقور التضخم هي أنهم يقولون إنه ينبغي القضاء على مئات الآلاف الوظائف، لا بل ربما الملايين منها، لأن الأرصفة في ميناء لوس أنجلوس مكتظة. فهل يُعقل هذا؟
لا شك أن الأمور كانت ستكون مختلفة لو رأينا مؤشرات على دوامة أسعار وأجور من النوع الذي حدث في السبعينيات. ولكن حتى الآن لم نرها. وعليه، ينبغي الآن أن تكون لدى صُنّاع السياسات الشجاعة للخروج من هذا التضخم بسلام.
* بول كروغمان كاتب وأكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.
المصدر | نيويورك تايمز