الرئيسة \  واحة اللقاء  \  البريسترويكا الأميركية 

البريسترويكا الأميركية 

17.01.2021
بسام مقداد



المدن 
السبت 16/1/2021 
تتميز المتابعة الروسية للحدث الأميركي بالصمت شبه المطبق للمسؤولين الرسميين ، وترك وسائل الإعلام تعبر عن المضمر من الأسف للنهاية المزرية لدونالد ترامب ، الذي استقبل البرلمان الروسي (مجلس الدوما) فوزه العام 2016 بإرتياح شديد ، وإقامة بعض من فيه إحتفالات الشمبانيا ، وتسميته "الرفيق ترامب". وحفلت وسائل الإعلام الروسية بتوقعات إندلاع حرب أهلية ، وإنقسام أميركا إلى أميركيتين ، وحتمية أفول العصر الأميركي. 
صحيفة الكرملين "vz" نشرت نصاً لنائب رئيس تحريرها والمعلق في وكالة نوفوستي بيتر أكوبوف بعنوان "هل تؤدي البريسترويكا الأميركية إلى إنهيار الولايات المتحدة" . استخدم الكاتب تصريحاً للرئيس الأميركي جو بايدن ، خاطب فيه الأميركيين بقوله "سنعيد بناء أميركا معاً" ، ليطلق على "إعادة البناء" هذه الكلمة الروسية الشهيرة "بريسترويكا" ، ويبني عليها السناريوهات ، التي يراها للبريسترويكا الأميركية هذه .  وسرى أن غورباتشوف لم يكن  يقصد إعادة بناء الإتحاد السوفياتي ككيان ، إنما كان يهدف إلى تحسين الإشتراكية عبر الإصلاحات الإقتصادية والسياسية . لكن الحصيلة الأساسية لعملية البريسترويكا ، لم تكن القضاء على النظام الإشتراكي فقط ، بل وتشظي الإتحاد السوفياتي إلى 15 كياناً رسمياً وعدة كيانات غير رسمية. 
يحّمل الكاتب مسؤولية إنهيار الإتحاد السوفياتي للولايات المتحدة ، التي ينبغي الثأر منها ، إذ يقول ، بأن البريسترويكا الأميركية ، لا تثير لدى المواطنين الروس سوى شعور واحد : توقع الثأر. ويتساءل ما إن كانت البريسترويكا الأميركية ستؤدي إلى إنهيار الولايات المتحدة ، الذي سيكون نوعاً من التعويض على الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين (كما يرى بوتين في سقوط الإتحاد السوفياتي) ، والكارثة القومية بالنسبة للروس. 
يعتبر الكاتب ، أن البرسترويكا الأميركية هي في طور النهاية ، لأن رجل البرسترويكا الأساسي في الولايات المتحدة هو دونالد ترامب ، الذي وصل إلى السلطة نتيجة  أزمة ثقة الأميركيين العميقة بنخبهم السياسية ، والإستياء من الأوضاع في البلاد . لقد دعا ترامب إلى إعادة بناء أميركا (بما فيه البنية التحتية المتداعية) وإستعادة عظمتها السابقة وإعتزاز الشعب بها ، على غرار ما كان يدعو غورباتشوف للعودة إلى القواعد اللينينية والديموقراطية الإشتراكية . لكن ترامب ، وعلى العكس من غورباتشوف ، لم يتمكن من تجديد النخب في "مستنقع واشنطن" ، وذلك للإختلاف الكلي في تركيب السلطة في الولايات المتحدة . لكن هل هذا يعني ، أن البريسترويكا الأميركية قد انتهت مع إنتخاب بايدن وإقتحام الكابيتول ، أم أنها بدأت للتو ، إنما ليست تلك  التي يعد بها بايدن ، برأي الكاتب. 
الكل في الولايات المتحدة يتحدث الآن عن ضرورة التغيير ، لأن الكل مستاء من الوضع في البلاد. لكن اسباب الإستياء ، وبالتالي أهداف البريسترويكا ، على عكس بعضها كلياً . فالترامبيون ، أي القوميون المتشددون، غير راضين عن التدمير التدريجي لأميركا القديمة الحقيقية ، بينما القسم الليبرالي الديموقراطي الكوسموبوليتي من النخب ، مستاء من موتها البطيئ للغاية . القوميون بحاجة لدولة أميركية للشعب الأميركي الأبيض والمسيحي بشكل أساسي ، أما الكوسموبوليتيون فهم بحاجة لأميركا جديدة ، حيث سكانها متعددو الأقليات ، لا يصرفون النخب عن إقامة النظام العالمي . ولهذا سوف يشتد في أميركا الآن الصراع بين مشروعي البريسترويكا الإثنين ، والمهم بالنسبة لروسيا ، أن ينتصر المشروع ، الذي يستجيب لمصالحها. 
ويرى الكاتب ، أنه إذا تمكن القوميون (مع ترامب في 2024 ، أو من دونه في 2028) من الأخذ بالثأر ومواصلة البريسترويكا الخاصة بهم ، بوسعهم أن يغيروا مسار التاريخ . الولايات المتحدة عندها ، سوف تتراجع سنة تلو الأخرى على الصعيد العالمي ، وتضع النخب الأطلسية ما فوق القومية رهانها الأساسي، ليس على الولايات المتحدة نفسها ، بل على أوروبا . الولايات المتحدة بالنسبة لهؤلاء ، لم تكن ، في يوم من الأيام ، تعنيهم بذاتها ، وإذا ما مادت الأرض تحت أقدامهم ، يمكن العودة إلى الجذور ، وجعل الولايات المتحدة الشريك الأصغر لأوروبا ، ولا يعود حينها المشروع الأطلسي مرتبطاً بمصير الولايات المتحدة. 
يعترف الكاتب ، بأن هذا السيناريو ضئيل الإحتمال جداً ، إلا أنه لا ينبغي عدم وضعه بالحسبان . ما هو محتمل أكثر بكثير ، برأيه ، هو أنه في حال بدأت بريسترويكا قومية حقيقية ، تتشظى الولايات المتحدة ، ويظهر مكانها دولتان أو أكثر ، واحدة منها تبقى نقطة إرتكاز للنخب القومية ، التي تبني المشروع العالمي ، وتنغلق الثانية على نفسها ، وتتحول إلى دولة قومية قوية. 
يؤكد أكوبوف ، أن إنتصار البرسترويكا الكوسموبوليتية يفضي أيضاً إلى إنقسام الولايات المتحدة ، ولا يرى في هذا ما هو مستغرب ، إذ يعتبر ، أن الولايات المتحدة كانت منذ البداية "كياناً مصطنعاً" بالمطلق ، ولا تغير في الأمر شيئاً الفترة القصيرة التي كانت تتزعم العالم خلالها . ومنذ ستينات القرن الماضي ، كانت الولايات المتحدة تحاول إعادة بناء أميركا الحالية ، لكن التناقضات فيها كانت تتزايد ، وأصبح الأمر يتطلب الآن تدخلاً جراحياً ـــــــ سياسة بريسترويكا (إعادة هيكلة) صارمة وواضحة.  
موقع المجلس الروسي للشؤون الدولية نشر في الأيام الأخيرة عدداً من النصوص لكبار الباحثين فيه حول الحدث الأميركي . السفير فوق العادة ، والمحلل في مركز دراسات الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الروسية بنيامين بابوف ، نشر نصاً بعنوان "بداية إنهيار الأمبراطورية الأميركية" . أما مدير المجلس أندريه كارتونوف ، فقد نشر مقابلة معه ، أجراها مع موقع إعلامي آخر ، بعنوان "الأحداث في واشنطن لا تستحق الشماتة . هذا درس لأية سلطة في أي بلد". 
أما النص الأهم ، الذي نشره موقع المجلس الروسي ، كان لمدير مركز كارنيغي موسكو وعضو المجلس في آن ديمتري ترينين بعنوان "بعد إقتحام الكابيتول . ماذا تعني لروسيا الأزمة السياسية في الولايات المتحدة" . يرى ترينين ، أن الصراع الأيديولوجي داخل الولايات المتحدة سوف يفاقم المكون الأيديولوجي في السياسة الخارجية الأميركية . وسوف تجد إدارة بايدن نفسها مضطرة لربط أعدائها الداخليين مع البلدان المعلنة عدوة على الساحة الدولية ، وفي طليعتها الصين وروسيا . وسوف يشتد النضال ضد التأثير الأجنبي ، وبالتحديد الروسي ، في الحقل الإعلامي الأميركي. 
كما يرى أن الولايات المتحدة سوف تعزز تأثيرها على العمليات السياسية في روسيا أكثر مما في عهد ترامب ، وبالدرجة الأولى في إنتخابات مجلس الدوما هذه السنة ، وفي الإنتخابات الرئاسية العام 2024. وينبغي توقع حملات إعلامية مكثفة ضد من يسميهم بايدن "مستبدو الكرملين الكليبتوقراطيين" ، ولا يجدر توقع سياسة أميركية أكثر هدوءاً حيال روسيا ، بل على العكس تماماً ، على الأرجح. 
ويقول ترينين ، أن ليس من ضرورة أبداً  ليتدخل الكرملين في الأزمة السياسية الحالية ، إذ ليس من أصدقاء لموسكو ولا حلفاء محتملين وسط الطبقة السياسية الأميركية . ويمتدح الرجل ندرة تصريحات الرسميين الروس بشأن الأحداث الأميركية ، ويعتبر ، أن التعبير عن الفرح بالنهاية الدورية لزعامة الولايات المتحدة ، والغضب بشأن المعايير الأميركية المزدوجة ، من الأفضل أن يُترك للبروباغندا . كما يعتبر ، أن النظام السياسي الأميركي سوف يتمكن من تجاوز الأزمة الحالية ، وأن أميركا ليست بحاجة لبريسترويكا حسب وصفة ميخائيل غورباتشوف.