الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الاستبداد حالة نموذجية

الاستبداد حالة نموذجية

27.01.2019
محمد جمال طحان


سوريا تي في
السبت 26/1/2019
لم أكن أعلم مدى جاذبية الاستبداد حتى جرّبته. كنت أعاني من حالة الديمقراطية الشائعة في البيت، فأتلقّى الشكاوى بصدر رحب، وأكظم غيظي حتى عندما يقدم الأولاد شكواهم فأحتاج إلى كثير من الصبر والوقت كي أقدم لهم حججاً مقبولة تفسّر أسباب توجيهاتي لهم.
وإذا تخاصم الابنان، كان عليّ أن أترك أعمالي وأصغي إلى وجهة نظر كل منهما لأحكم بالعدل بينهما، فألوم المخطئ وأعيد الحق إلى المظلوم. عندما تسلمت إدارة المؤسسة التي أعمل بها لم أشأ أن أمارس القمع الذي نعانيه من رؤسائنا، لذلك اجتمعت بالموظفين في أحد مكاتبهم ولم ألق خطبة عصماء ولم أتشدق بوطنيات لا تتجاوز اللسان، ولم أرفع شعارات فضفاضة لا معنى لها، بل اكتفيت بالقول: كلنا موظفون، ونعلم مقدار ما يعانيه العاملون في بلادنا، اعملوا قدر إمكاناتكم بمحبة وإخلاص وليختر كل منكم العمل الذي يجد نفسه صالحا له، وسأفعل ما بوسعي للتخفيف من أعبائكم، ولن أكون في يوم من الأيام عبئاً عليكم، أو (بعبعاً) تتحاشون رؤيته في الصباح.
لم تمض أيام على إدارتي للمؤسسة حتى بدأت الطلبات والشكاوى تنهال عليّ.
كل عامل يشي بزملائه ويفضح أخطاءهم، ويراجعني المتخاصمون لأفضّ اشتباكهم. بل لقد تجرّأ بعضهم وراحوا يشيرون علي فيما يجب أن يكون.!!
بعد أسابيع وجدت نفسي واقفا في (حيص بيص) بشكل لم يعد سير العمل فيه ممكناً، وبخاصة أن بعض العاملين يحرجونني في مسائل مهنية لا أفهم في تفاصيلها، فاتخذت قراراً أزعجني في البداية، وهو أنني سأوزع العمل بالطريقة التي أجدها مناسبة، وأغضّ الطرف عن تظلّمات بعض أصحاب الحق..
الآن، بعد سنوات من استلام منصبي وفرض طريقتي، اكتشفت أنها الطريقة الوحيدة الناجعة في مثل هذه الظروف التي تمر بها بلادنا.
اتخذت قراراً أزعجني في البداية، وهو أنني سأوزع العمل بالطريقة التي أجدها مناسبة، وأغضّ الطرف عن تظلّمات بعض أصحاب الحق
صحيح أنني أتجاهل أخطاء بعض الموظفين، وأتجنّب الحديث في الرشاوى التي يُنمى إلي أنهم يتقاضونها من المراجعين، وأوقّع كشوفات لجنة الشراء من غير تدقيق، وأكبت آراء بعض المخلصين التي أراها تصبّ في المصلحة العامة، وأوقّع العقوبات والمكافآت بناء على اقتراحات رؤساء الأقسام من غير تمحيص؛ كل تلك (البلاوي) تحدث في مؤسستي ولا أنكرها، ولكن الصحيح الذي لا يمكن أن أتغاضى عنه، هو حصولي على راحة لم أكن أحلم بمثلها.
لم تعد تهمني المشكلات التي يعانيها الآخرون، ما دمت أقبض راتبي ومكافآتي وبعض المنح الإضافية والمصروفات (المستورة). والأهم من هذا وذاك، هو رضى رؤسائي عني، بعد أن غدوت أأخذ ممن هم دوني وأعطي إلى من هم فوقي.
صحيح أنني أنصاع لرؤسائي كالنعاج، ولكنني ـ بالمقابل ـ أحصل على انصياع العاملين في مؤسستي.
وإذا بدا بعض الموظفين غير راضين عن طريقة سير العمل، فإن ذلك لا يهمني، لأنني سرعان ما أخاطب رؤسائي ونعمل على نقلهم إلى أعمال نضمن فيها شعورهم بالمهانة والذل، ونرتاح في إقصائهم كي لا يزعجوا أسماعنا بتذمّرهم من استبدادنا في قراراتنا التي لا تقبل المراجعة أو النقاش.
الاستبداد متعة لا تدانيها سواها، حيث تشعر بأنك الآمر الناهي الذي لا يُردّ له طلب ولا يُعصى له أمر. إنّه حالة نموذجيّة للعيش المريح.
من هنا نجد أن المستبد مريض يحاول تعويض نقصه عن طريق تحطيم التماثيل الجميلة. وهذا التصوير الذي يورده "الكواكبي"، يستدعي أن تخرج من دُرج الذاكرة نظرية (أدلر) حول التعويض و(إدارة القوة) إذ يلجأ مَن يشعر بضعفه إلى (التعويض عن الشعور بالنقص) بالمغالاة في بعض الأمور، وإن لم يتمكن من التعويض، ولن يفعل، فإنّ صاحبه يصاب (بالعصاب) ويحاول أن يتميز عن الآخرين، عن طريق الانتقام منهم، ما دام عاجزاً عن أن يكون طبيعياً مثلهم. يرى أدلر أن الاستبداد قد يرجع إلى شعور ذاتي بخيبة الأمل والإحباط، وهكذا "يحاول الضعفاء والأغبياء والفاشلون التخلّص من شعورهم بالنقص عن طريق إذلال الآخرين وإخضاعهم".
الاستبداد متعة لا تدانيها سواها، حيث تشعر بأنك الآمر الناهي الذي لا يُردّ له طلب ولا يُعصى له أمر. إنّه حالة نموذجيّة للعيش المريح
 فالرغبة في السيطرة، والميل إلى التسلّط، ثمرة ضعف نفسي وبلبلة داخلية. يقول (إريك فروم): "ليس التطلع إلى السلطة ابن القوة بل الولد الهجين للعجز". إن عجز الفرد عن التحكم بأفعاله، وعن فرض احترامه على الآخرين، يُلجئه إلى إخفاء عجزه وراء موقف مناقض لحقيقته. ويحاول تغطية عجزه فيقع فريسة شتى الأمراض النفسية. وهذا ما حاول الكواكبي قوله من خلال تحليله شخصية المستبد وتصوير خوفه من رعيّته.
يرى (فرايرى)، بحق، "أن نزعة القاهرين في امتلاك كل شيء حتى الإنسان هي ضرب من السادية" وهذا ما عبّر عنه الكواكبي من خلال وصفه شقاء المستبد واضطراب تفكيره نتيجة فقدانه نصائح العلماء المخلصين (فالاستبداد يقيم حاجزا عقلياً ونفسياً بين المستبد ورعاياه مما يجعل المستبد يعيش في عزلة تامة، فتجتمع له من الجهل والتعظيم والعزلة كل أسباب المرض الذي يسمّونه "جنون العظمة" الذي تصدر عن صاحبه أغرب التصرفات وأكثرها حمقاً) وهذا ما يسمّيه (ألبير ميمي): "العقدة النيرونية"  للمغتصِب، الذي لا ينتصر فيه سوى الوجه الذي يُدينه. ويشعر بالحاجة إلى غسل يديه من انتصاره. ومن هنا، يبذل جهداً كبيراً في تزيين (بل تزييف التاريخ، وإعادة كتابة النصوص، وإطفاء مخزون الذاكرة، إنّه يجهد نفسه لكي يحوّل الاغتصاب إلى عمل مشروع.