الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الفارق بين الحبر والدم

الفارق بين الحبر والدم

28.03.2019
سوسن جميل حسن


العربي الجديد
الاربعاء 27/3/2019
منذ عام 1968، أي بعد هزيمة حزيران 1967، شرعت إسرائيل في إقامة تجمعات استيطانية. ومنذ العام 1970 بدأت تقام مستوطنات تقف خلفها تنظيمات يهودية متطرفة، وهي ظاهرة شاعت فيما بعد في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى عام 2005. ومع وصول اليمين ممثلا في حزب الليكود إلى السلطة عام 1977، ضمَّ رئيس الوزراء مناحيم بيغن الضفة الغربية وقطاع غزة، ويومها كان عدد المستوطنات خارج القدس الشرقية لا يتعدى 31مستوطنة تعداد قاطنيها 4400 مستوطن.
واستمرت عملية الاستيطان على مدى العقود الماضية، في الضفة والقطاع والجولان والقدس خاصة بعد إعلان الكنيست القدس عاصمة موحدة لإسرائيل في العام 1980، وقرار ضم الجولان في العام 1981، والسنوات تمضي وتمضي إسرائيل في مشروعها الاستيطاني ضاربة بكل القرارات الدولية عرض الحائط، والأنظمة العربية ماضية في تمكين قبضتها على شعوبها تاركة إياها في حالة استنقاع مخدرة بشعارات مضللة، إلى أن وقعت "الوقائع"، انتفضت الشعوب من أجل كرامتها وحياتها مطالبة بتحقيق العدالة وضمان الحريات وصون الحقوق وإشراك الشعب في صنع القرارات والسياسات وتداول السلطات وإلى ما هنالك من مطالب مشروعة
كان دمار الأوطان وانهيار الدول والمجتمعات لتصير جاهزة لتنفيذ أي مشروع طامع باستغلالها وفرض النفوذ عليها
تفتقدها هذه الشعوب، لكن الهجمة على حراكها ومشروعها كان كبيرًا فتدخلت القوى الخارجية وحرفت الحراك عن مسارها وحولتها إلى حرب بين الأنظمة وشعوبها، وبين شرائح المجتمع أو فئات الشعب في حروب بينية مدمرة لما تتركه من آثار باقية وشروخ عميقة على المدى الطويل. فكان دمار الأوطان وانهيار الدول والمجتمعات لتصير جاهزة لتنفيذ أي مشروع طامع باستغلالها وفرض النفوذ عليها.
كان قرار الرئيس الأمريكي ترامب في الخامس والعشرين من هذا الشهر آذار/ مارس بالاعتراف بضم الجولان وإخضاعه إلى السيادة الإسرائيلية بمثابة طعنة ثانية في صميم الكرامة المتبقية لهذه الشعوب المنكوبة، اعتراف مع توقيع احتفالي سافر متحديًا القرارات الدولية والرأي العام العالمي شاهرًا الوثيقة أمام الكاميرات بعنجهية المتحكم بمصير الشعوب والعالم المتفرد بقراراته مبرزًا توقيعه المركب المعقد كرسالة إلى العالم بأنه الوحيد الذي يتبوأ عرش القرار، يعرف ويحق له أن يقرر لحظة الصفر في أي قضية عالمية. فهل يعني هذا الاعتراف وهذه الوثيقة أن الجولان صار تحت السيادة الإسرائيلية قانونيًا وشرعيًا؟
في الواقع فإن الجولان تحت سلطة الاحتلال منذ اثنين وخمسين عامًا، وسكانه موزعون بين ما تبقى من مساحته تحت السيادة السورية وما صار تحت سلطة الاحتلال، وكنا، نحن السوريين، نشاهد من على شاشة التلفزيون الرسمي الأعراس التي تقام على المعبر الحدودي الواقع تحت إشراف قوات السلام الدولية، حيث تودع العروس أهلها في الجانب السوري وتعبر الحدود إلى بيتها الجديد، لتلاقي عريسها في الجانب الإسرائيلي وتبدأ حياة أخرى في منطقة تخضع لسلطات الاحتلال كلها. كان هذا المشهد يؤثر فينا ويدفعنا إلى أقاصي البكاء، ربما كان مشهد كهذا يلامس جذوة مطمورة تحت رماد أرواحنا المحترقة، فلا نملك معه غير البكاء الحارق المفجوع، ثم نعود إلى حياتنا المخدرة بالوعود وبأن إسرائيل ستقهر وأنها فعلا سترمى في البحر، وأن الجولان وقبلها فلسطين عربية ومهما طال الزمن ستعود، وأن.. وأن.. ومرت الأيام والسنون وإسرائيل يزداد جبروتها وأنظمتنا يزداد جبروتها، لكن الفارق بيننا وبينها أنها كانت تبني دولة، بغض النظر عن موقفنا نحن أبناء هذه المنطقة التي اعتدت إسرائيل على أراضيها، دولة تتطلع إلى النموذج الحديث للدول، فلديها اقتصاد متين ولديها بحث علمي متقدم ولديها صناعة متطورة ولديها انتخابات، وفي بلداننا تشيد الأنظمة عروشها وتمكّنها وتسيجها بدماء الشعوب وأرواحها.
الرئيس الأمريكي المبتهج والمتباهي بفعله قدّم إلى رئيس الحكومة الإسرائيلي
لماذا في غير بقعة من العالم يطرح تقرير المصير على الشعب من أجل الاستفتاء بينما شعوبنا دائمًا مستهان بها وبأرواحها وإرادتها واستقلالها ورغباتها
قلمه الذي وقع الميثاق به بعدما كان هذا الأخير قد أحضر معه هدية من نبيذ الجولان.
أمم القلم بالنسبة إليها رمز الحضارة التي تصنع القوة، وأمم دماء أبنائها مرصودة لتسطير البطولات التي تعني الموت تحت عنوان الشهادة، دماؤها رخيصة حتى إنها لا تملك غيره من أجل الكفاح.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي: هناك شعبان يقفان إلى جانب القرار، شعب إسرائيل والشعب الأمريكي. فهل سئل عن موقف الشعب في الجولان؟ هل الشعب الجولاني شعب إسرائيلي؟ لماذا في غير بقعة من العالم يطرح تقرير المصير على الشعب من أجل الاستفتاء بينما شعوبنا دائمًا مستهان بها وبأرواحها وإرادتها واستقلالها ورغباتها، محكومة باستبداد أنظمتها واستضعاف العالم لها؟
إسرائيل ومعها قوى العالم متمثلة بالولايات المتحدة ماضية في القضاء على أي احتمال لحل القضية الفلسطينية إلاّ بالقضاء عليها، وعملية السلام باتت مستحيلة، وإن أعلن ضم الجولان اليوم وقبلها القدس عاصمة لإسرائيل، فهناك الضفة التي تنهشها المستوطنات ولا نعرف متى يصبح إعلان ضمها جاهزًا للإشهار، وغزة المحاصرة التي يموت شعبها بعشرات الطرق. أما نحن فتكفينا "داعش" وأخواتها، لقد أنجزنا بطولة تاريخية للعالم الذي يرتجف من حمى اسمها "الإرهاب الإسلاموي" الذي تصر بعض المنابر الإعلامية على ترداد تسمية "الإرهاب الإسلامي" على أساس أنها تسمية غربية، لكن الواقع يقول غير ذلك، وأن تكرار هذه التسمية ليس فعلاً بريئًا من قبل تلك المنابر. يكفينا إذا أن نحقق هزيمة داعش جغرافيًا وعسكريًا، مع غض الطرف عن جزرها الباقية في أماكن عدة من سوريا، وأن الدولة السورية انتصرت على الإرهاب، وأن دماءنا بذلناها بسخاء لا يفوقه سخاء، دمنا المرصود للانسفاح من أجل العقيدة أو الوطن، ولشدة قدسيته فإننا نبايع ولاتنا به في الاستفتاءات التي يحققون فيها نسبة تفوق المائة في المائة أحيانًا، الاستفتاءات على الأبدية.
بين مداد الأقلام ومداد القلوب تُبنى دول وتحرق أوطان، فمتى ننتصر لدمائنا ونرجعها إلى قلوبنا علها تروي عقولنا التي أوشكت على الموت، فنتعلم من جديد كيف نمسك القلم، ليس من أجل بناء حضارة على الطريقة الأمريكية، إنما حضارة إنسانية نستحق معها العيش مع باقي الأمم؟ متى نجتاز ثقافة أننا بدمائنا نسطر البطولات والملاحم، وبالدماء نفوز بالشهادة والجنان، ونفهم بدلاً عن هذا أن بالقلم تُبنى الحضارات؟