الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الإلحاد والاستبداد السياسي

الإلحاد والاستبداد السياسي

18.05.2019
محمد خير موسى


موقع "على بصيرة"
الخميس 16/5/2019
كان الاستبدادُ السّياسيّ -وما زال- رأساً في الشّرور وعنواناً لا تخطئه البصيرةُ في ضربِ أصول الأفكار وهدم الثّوابت من أسفل قواعدها.
وعند الحديث عن الإلحاد في مرحلة ما بعد الثّورات فإنّ أوّل ما ينبغي الحديثُ عنه هو الاستبدادُ السّياسيّ الذي كان سبباً رئيساً في نشوء الظّاهرة واستفحالها.
وهذا يحتاجُ إلى الحديثِ عن الاستبداد ودوره في الإلحاد في مراحل ثلاث: مرحلة ما قبل الثّورات، ومرحلة الثّورات في أوجها الرّبيعيّ، ومرحلة ما بعد الثّورات المضادّة.
مرحلة ما قبل الرّبيع العربي:
ساهم الاستبدادُ في صناعة الإلحاد عَبْر مسارين اثنين متلازمين:
المسار الأوّل: التّرويج الممنهج للإلحاد عبر شيطنة الدّين والمتدينين وتشويه صورته في العقل الجمعي، وذلك عن طريق الوسائل والبرامج المختلفة، لا سيما البرامج التربويّة والمناهج الدّراسيّة والأعمال الفنيّة من مسلسلات وأفلام.
ففي مجلّة جيش الشّعب الرّسميّة النّاطقة باسم جيش النظام السّوري آنذاك نشر مقال عام 1968م أثار ضجّة كبرى جاء فيه: "يجب وضع الله تعالى والكتب والرسل في متحف التاريخ"، ليتبيّن بعد ذلك أنّ هذا لم يكن مقالاً عابراً بل هو تعبيرٌ عن منهجٍ قادم بقي مستمرّاً إلى يومنا هذا بصور مختلفة.
وكم صدحت الإذاعات المدرسيّة بقصائد تسفيه الإله في نفوس الطلّاب، ومن ذلك البيت الذي لا يكاد يجهله أحد في سوريا من كثرة ما تردّد:
آمنت بالبعث ربّاً لا شريكَ له *** وبالعروبةِ ديناً ما له ثاني
ولم تكن صورة المتديّن في الفن في ظلال الاستبداد إلّا تلكم الصّورة الذّهنيّة التي تنفّر منها النّفوس وتعافُها العقول، فهو السّاذج الغبيّ، أو الشّهوانيّ الشّبق، أو المتأكّل بالدّين، أو موضع الاستهتار والاستهزاء، أو هو المجرم القاتل، والدّمويّ الشّرير، والجاهل المتخلّف الرّافض للتنوير والتّحضّر.
وهذا ظاهر في الأفلام والمسلسلات السّوريّة والمصريّة بشكلٍ لا تخطئه العين، ومن أَجْلى الأمثلة على ذلك مسلسل: "ما ملكت أيمانكم"، لمخرِجِه "نجدت أنزور" الصّديق المقرّب من رئيس النّظام السّوري "بشّار الأسد"، الذي حرص على تصوير الحالة الدينيّة النسويّة والمساجديّة في سوريا بطريقةٍ أثارت حفيظة وغضب المؤسسات الدّينيّة، وقد كانت تعبيراً عن توجُّه الدّولة العامّ في ذلك، وأمّا أفلام عادل إمام وأهمها "الإرهابي" و"الإرهاب والكباب" فتمثّل نموذجاً لهذا الفنّ المدعوم من السّلطة الاستبداديّة لتشويه التديّن وصورة الدّين، من خلال تشويه صورة المتدينين وتنميطها بطريقة معينة.
ويضيق المجال للحديثِ عن تفاصيل تعامُل الاستبداد مع التديّن في هذا الإطار لكنّ جماع ذلك: أنّ الاستبداد يعلمُ أنّ سلطةَ الدّين الحقّ في نفس صاحبها تنفثُ فيه روح الحريّة وتدفعه إلى تحقيق الغاية من وجوده وهي الاستخلاف القائم على مواجهة الإفساد بالإصلاح ومواجهة القتل بالإحياء، فكان لا بدّ من تشويهها في نفس النّشء، وخير وسيلةٍ لذلك هو الإعلام الذي تملكه وتتحكَّمُ به السّلطات المستبدّة وحدها لعقودٍ طويلة.
ومن الطّبيعي أن ينتقل المرءُ من تشوّه المتديّن إلى تشوّه الدّين نفسه وزعزعة ثباته في النّفس الإنسانيّة، وتكوين قناعات سلبيّة تجاه الله تعالى والدّين.
 وأمّا المسار الثّاني: فهو المواجهة العنيفة مع الدّين وقمع المتدينين وإرهابهم وإخافتهم من عواقب الالتزام والتّديّن.
وهذا المسار انتهجته السّلطات المستبدّة في عموم البلاد العربيّة في مرحلة ما قبل الثّورات وما تزال، وكانت أعنف هذه السّلوكيّات هي ما شهدته سوريا وليبيا ومصر وتونس وهي أهمّ البلاد التي تفجّرت فيها ثوراتُ الشّباب العربي.
هذه المواجهة بالملاحقة والمراقبة والتضييق والاستدعاءات الأمنيّة تدفع الشّباب إلى أحد سلوكين: إمّا المزيد من الاستمساك بالتديّن بشكلٍ أكبر وأشدّ، أو النّفور والخوف والتّوجّه إلى طريق الانخلاع من ربقة هذا التديّن بل الدّين كلّه، إيثاراً للسّلامة.
مرحلة الرّبيع العربيّ:
ما أن تفجّرت ثورات الرّبيع العربي حتّى هدم الشّباب صنم الخوف الذي شيّده الطّغاة داخل النّفوس، واجتاحت عمليّة الهدم الكثيرَ من المسلّمات التي عاش الشباب في حياتهم على أنّها ثوابت لا يمكن زعزعتها، ومن هذه الثّوابت التي طالها الهدم عند فئةٍ من الشّباب الثّائر هو الدّين نفسه.
فالثّورات في فلسفتها هي عمليّة هدم لا يحكمها العقل، ولا تفكّر في العواقب ولا تحسبُ النّتائج، وهمّها هو أن تجرف هذا الطغيان المتجذّر وتقتلعه من جذوره.
فكما كانت الثّورة الفرنسيّة نقطةً فارقةً في تاريخ البشريّة في قضيّة الإلحاد وتغيّر النّظرة إلى الدّين والإله كما يقول عامة المؤرخين الذين وصل الحدّ ببعضهم إلى القول بأنّ الإلحاد هو روح الثّورة الفرنسيّة، فإنّه يمكننا القول بأنّ ثورات الرّبيع العربي تمثّل نقطةً فارقةً ومفصليّةً في قضيّة الإلحاد في تاريخ الأمة الإسلاميّة عموماً.
ومن حقّ الجميع أن يتساءل مستنكراً: وكيفَ تؤدّي الثّورة على الاستبداد إلى ثورة البعض على الدّين نفسه؟!!
وللإجابة على هذا: لا بدّ أن نقرأ بكثيرٍ من التّمعّن ما قاله "عبد الرّحمن الكواكبي" في بيان العلاقة بين الفكرة الاستبداديّة والدّينية في نفوس الرّعية والجماهير، حيث يقول في كتابه الماتع "طبائع الاستبداد":
"إنَّ هذا التَّشاكل بين القوّتَيْن السّياسيّة والدّينيّة، ينجرُّ بعوام البشر -وهم السّواد الأعظم- إلى نقطة أنْ يلتبس عليهم الفرق بين ‏الإله المعبود بحقّ وبين المستبدّ المُطاع بالقهر، فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التَّشابه في ‏استحقاق مزيد التَّعظيم، والرِّفعة عن السّؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال، بناءً عليه: لا يرون لأنفسهم ‏حقّاً في مراقبة المستبدّ لانتفاء النّسبة بين عظمته ودناءتهم، وبعبارة أخرى: يجد العوامّ معبودَهم وجبَّارَهم ‏مشتركَيْنِ في كثيرٍ من الحالات والأسماء والصِّفات، وهم ليس من شأنهم أنْ يُفرِّقوا مثلاً بين (الفعَّال ‏المطلق)، والحاكم بأمره، وبين (لا يُسأل عمّا يفعل) وغير مسؤول، وبين (المنعم) ووليّ النعم، وبين ‏(جلَّ شأنه) وجليل الشَّأن.
بناءً عليه، يُعظِّمون الجبابرة تعظيمَهم لله، ويزيدون تعظيمهم على التَّعظيم ‏لله، لأنَّه حليمٌ كريم، ولأنَّ عذابه آجلٌ غائبٌ، وأمَّا انتقام الجبَّار فعاجلٌ حاضر، والعوامّ -كما يقال- ‏عقولهم في عيونهم، يكاد لا يتجاوز فعلهم المحسوس المُشاهَد".
وفي هذا كلامٌ دقيقٌ يقتضي بمفهومه أنّ هذا التّلازم بين القوتين يكون حال النّقض كما هو حال الوجود.
كما أنّ التلازم موجود بين المعبود والطّاغية في نفوس النّاس كما وضّح "الكواكبي" فإنَّ هذا التلازم يكون في حالة الهدم، فهدم الحاكم في النّفوس يؤدّي عند عددٍ ممن لم يستطع التفريق بينهما إلى هدم المعبود في النّفس أيضاً.
فالثّورة التي تقوم روحها على التّحرّر من مفهوم السّلطة، تؤدّي في مراحل العنف الشديدة في مواجهتها وقمعها إلى التّحرّر من سلطة الدّين في النّفس مترافقةً مع التّحرر من سطوة السّلطة السّياسيّة الحاكمة للتّلازم بينهما كما بيّن "الكواكبي".
وكذلكَ فإنَّ مما يؤدّي إلى بروز الإلحاد مع الرّبيع العربي عدم نضوج مفهوم الحريّة في نفوس الشّعوب التي ثارت على الطّغيان.
فالحريّة التي تعني التحلّل من كلّ قيدٍ ومن كلّ سلطةٍ والانعتاق من ربقة أيّ تكليف أيّاً كان التّكليفُ وأيّاً كان المُكلِّف، كلّ هذا ساهم في إظهار الإلحاد بوصفه مظهراً من مظاهر الحريّة التي تعني في وجدان الكثيرين كسرَ القيود كلّها، والانعتاق من السلطة بكلّ أنواعها وصورها وأشكالها، سياسيّةً واجتماعيّةً ودينيَّة.
 مرحلة ما بعد الثّورات المضادّة:
بعدَ أن وُئِدَ الرّبيع العربيّ وسُحقت أزهاره بالانقلابات العسكريّة وتدخُّل الجيوش الأجنبيّة والتفاف الدولة العميقة وتحالف كارهي الشّعوب مع المستبدّين، سادت حالة من اليأس والإحباط عند شريحةٍ جديدة من الشّباب العربي.
كان الانقلاب ومذبحة رابعة في مصر وما تلاها من ملاحقات وتصفيات واعتقالات، وإعادة النّظام سيطرته على حلب في سوريا وما تبعها من مجازر في الغوطة والجنوب وإعادة سيطرة النّظام على بقيّة مناطق الثّورة، مراحل فاصلة في حياة شباب البلدين.فبعد هذه الصّدمات العنيفة وجد الشّباب أنفسهم في مواجهةٍ مع كلّ المبادئ التي حملوها وتغنّوا بها، مع كل الأفكار التي آمنوا بها ورأوها على أرض الواقع، قد غدت هشيماً تذروه رياح الخيبة بل الخيبات التي تراكمت على قلوبهم ظلماتٍ بعضها فوق بعض.
وجدوا أنفسهم في مواجهةٍ مع سؤال الجدوى ولا مجيب، الجدوى من كلّ هذا الذي فعلوه، والجدوى من كل هذه الدماء وهذا الموت الذي طالما ركضوا إليه مبتسمين لأجل حريّة يلوح برقها، ومن أجل كرامةٍ غدت سراباً بقيعةٍ.
وتفجّرت في أنفسهم أسئلةٌ عن موقف الإله من المستبد، لماذا ينصر الله تعالى السيسي وبشّار؟! هل يحبّ الله تعالى بشّار والسيسي والطّغاة أكثر من الأطفال الذين ماتوا بالكيماوي؟! وأسئلةٌ عن قدرة الله تعالى على الجبابرة الذين يغتصبون النساء البريئات في السجون انتقاماً منهن ومن أهليهنّ فقط لأنّهم قالوا للمجرم: لا؟!
فعودة فرعون إلى العلوّ في الأرض من جديد -وهم الذين كانوا يرون غرقه قاب قوسين أو أدنى- أدّت إلى هزّاتٍ نفسيّة عميقة، وأسئلةٍ لا تكاد تنتهي ولا يجدون إجاباتٍ حقيقيةً واضحةً عليها، هذه الهزّات تبدأ برفض الواقع ورفض الذّات وتنتهي برفض الدّين ورفض الإله.
الحريّةُ من الاستبداد ملجأٌ من الإلحاد:
جميعنَا يحفظ قاعدة "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه- التي ما تزال تتردد عبر صفحات الزّمن: "متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟!"
هذه القاعدة التي جاء "الطّاهر بن عاشور" ليؤصّل لها بشكلٍ جليّ لا لبس فيه معلناً أنّ الحريّة مقصدٌ من أعظم مقاصد الشّريعة، فيقول: "ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: (الشارع متشوّف للحرية) واستقراء ذلك واضح من تصرفات الشريعة التي دلّت على أنّ من أهم مقاصدها إبطال العبودية وتعميم الحرية، لكن دأب الشريعة في رعي المصالح المشتركة وحفظ النظام وقف بها عن إبطال العبودية بوجه عامّ وتعويضها بالحرية".
فالتحرّر من العبوديّة والخضوع للاستبداد هو البوّابة الرئيسة لاستشعار حقائق الإيمان بأجلى صورها.
فكلّ مواجهةٍ للاستبداد وكلّ جهدٍ يصبّ في هذا الإطار يمثّل خدمةً حقيقيّة للإيمان بالله، فلا ينمو الإيمان الرّاشد إلّا في رحاب الحريّة الحقيقيّة.
ومن سبل مواجهة الإلحاد مواجهة أسبابه، فالاستبداد هو البيئة الأكثر خصوبة لنموّ هذه الظّاهرة، وهو المستنقع الذي لا بدّ من تجفيفه بشمس الحريّة ليصبح صالحاً للعيش بكرامةٍ وإيمانٍ حقيقيّ.