الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الإقليم بعد التنسيق الروسي التركي

الإقليم بعد التنسيق الروسي التركي

29.01.2017
د. محمد عاكف جمال


البيان
السبت 28/1/2017
التقارب الروسي- التركي والتنسيق، الذي صاحبه على المستويين السياسي والعسكري، الذي شهدناه مؤخراً حول الأزمة السورية يستوجب التوقف عنده، لأنه لا ينسجم البتة مع السياقات والسياسات القائمة والاصطفافات الموروثة، فقد اتسمت العلاقات التركية- الروسية عبر التاريخ بالعداء،.
فمنذ منتصف القرن السادس عشر دخل الطرفان في سلسلة حروب، بلغ عددها ثلاث عشرة حرباً كانت آخرها الحرب العالمية الأولى، التي أدت إلى انهيار الإمبراطوريتين العثمانية والروسية، لينتقل هذا العداء إلى طور جديد حين اصطفت تركيا مع الغرب، ولتصبح بعد حين أحد الأعضاء البارزين في حلف الناتو، الذي تأسس أصلاً لمواجهة روسيا تحت مسمى الاتحاد السوفييتي.
الحقيقة أن التنسيق وليس التحالف بين روسيا وتركيا ضرورة للطرفين قبل أن يكون خياراً لأي منهما، العلاقات التركية- الروسية تكون عادة أقوى حين يكون البلدان تحت ضغوط شديدة، فكلاهما يواجه تحديات على المستويين الداخلي والدولي أكثر وأكبر مما كانت قبل عقد من الزمن.
تركيا لم تلجأ لإصلاح وتطبيع علاقاتها مع روسيا التي تردت إثر حادثة إسقاط الطائرة الروسية، إلا بعد أن بدأت تفقد قوتها ونفوذها على المستوى الإقليمي، فقد فشلت في تحقيق أهدافها، من خلال سياساتها السابقة، التي دعمت بها الثورات العربية بشكل عام.
والصراع المسلح في سوريا بشكل خاص، الذي أسفر عن ما يزيد على المليونين لاجئ على أراضيها وكلفة مالية، تقدر بما يزيد على العشرين مليار دولار، ومتاعب سياسية جراء اصطدام هذه السياسات، لأسباب مختلفة، بمواقف ومصالح دول عديدة، منها الولايات المتحدة وروسيا وإيران وبعض دول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تعرضها لأكثر الهجمات الإرهابية دموية في تاريخها، وانهيار سوقها السياحي.
كما أن هناك عوامل أخرى هامة تقف وراء ذلك، تتعلق بأمنها القومي بعد أن خذلتها الولايات المتحدة، التي لم تقدم ما يهدئ هواجسها، بشأن العلاقة مع التنظيمات الكردية- السورية المعادية لها، كما أن القيادات التركية لديها شكوك وربما قناعات بتورط الولايات المتحدة بالمحاولة الانقلابية لإطاحة الرئيس أردوغان الصيف المنصرم، فهي بهذا التنسيق تسعى لتلافي المزيد من الخسائر، التي قد تلحق بها، وتضمن أمنها القومي، وتحصل على بعض النفوذ السياسي في المنطقة.
أما بالنسبة لروسيا التي بدأت تعاني من العزلة، بسبب العقوبات التي فرضها الغرب مع اندلاع الأزمة الأوكرانية، وضم شبه جزيرة القرم فقد وجدت في إصلاح علاقاتها مع تركيا فرصة سانحة تفتح لها آفاقاً إيجابية ليس فقط لاستعادة العلاقات الاقتصادية معها، بل للتعاون السياسي كذلك لمعالجة قضايا منطقة الشرق الأوسط خاصة في سوريا،.
حيث تمسك تركيا ببعض خيوطها، فهي لم تعد راغبة في الإيغال بالوحل السوري في الوقت، الذي تعاني من متاعب اقتصادية وسياسية، فروسيا لم تستطع أن تحقق هدفها من التدخل العسكري في سوريا في سبتمبر 2015 في السقف الزمني، الذي حددته وهو ثلاثة شهور، وأصبحت بأمس الحاجة لتحقيق تسوية سياسية.
دخول تركيا الساحة السورية جعل منها لاعباً ثالثاً في تقرير مستقبل الصراع الدائر فيها، فتدخلها كما هو التدخل الإيراني يدخل في باب المصالح، التي تتعلق بمكانتها الإقليمية على الضد من الموقف الروسي، الذي له حساباته الدولية، فبعد أن كان كل من روسيا وإيران يتبنيان استراتيجية القضاء على المعارضة عسكرياً.
وتثبيت نظام الرئيس الأسد أصبح الموقف بعد معركة حلب مغايراً، لتصبح المعارضة طرفاً في الحل السياسي، الذي تسعى روسيا وتركيا فرضه على الرغم من المعارضة الإيرانية. التنسيق الروسي- التركي على المستوى السياسي تعزز بشكل أفضل، بعد أن أصبحت روسيا أكثر تفهما لمطالب المعارضة على الرغم من أن لقاء وفدي النظام والمعارضة، والدول الضامنة في العاصمة الكازاخستانية لم يثمر عن شيء ملموس.
العلاقات الروسية- التركية مرشحة للمزيد من التطور خاصة بعد أن أكدت روسيا رفضها قيام كرد سوريا بإعلان "النظام الفيدرالي" بشكل أحادي.
مؤكدة أن الشعب السوري وحده صاحب القرار في تقرير ذلك، فتركيا التي تعاني من الافتقار الشديد لمصادر الطاقة بحاجة ماسة، لترتيب علاقاتها مع روسيا الدولة المؤهلة أكثر من غيرها جغرافياً، لتلبية حاجاتها لذلك، فهي تستورد معظم احتياجاتها من مصادر الطاقة وهي المشتري الثاني للغاز الطبيعي الروسي بعد ألمانيا. وهناك رغبة لدى الطرفين لزيادة حجم ذلك خاصة بعد أن وقعا مؤخراً اتفاقاً ثنائياً بمد خط أنابيب لنقل الغاز إلى تركيا "ترك ستريم" يمر عبر البحر الأسود.
من جانب آخر تركيا تخطط لبناء أربع محطات نووية تضم كل منها أربعة مفاعلات لسد جزء من حاجتها للطاقة الكهربائية، حيث اتفقت مع روسيا على بناء المحطة الأولى، التي فازت "شركة روساتوم" بعقد التنفيذ بكلفة 20 مليار دولار في منطقة أكويو المطلة على البحر الأسود.
لا شك في أن التنسيق الروسي- التركي قد عرّض التوازنات الإقليمية القائمة للاهتزاز، وربما تشهد تغيرات مهمة على مستوى التنسيق طويل الأمد، فالغرب خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، يراقب بقلق التقارب بين موسكو وأنقرة، لما يمكن أن يحدثه ذلك من تأثيرات على التوازنات الدولية.
وعلى مستقبل العلاقات التركية- الغربية. كما تراقب إيران بقلق أكبر هذا التقارب، الذي يبدو أنه يجري في بعض فصوله على حساب دورها، ونفوذها في المنطقة.